د. نهلة عيسى:
تهدجت, بل تقطعت أنفاسي أمس, أنا الدائمة الوقوف على عقبي أعصابي, وتسارع نبض القلب بصورة لا تنتمي لحب, ولا لغضب, ولا لتعب, فتحاملت على الألم, فلم يتحملني هو, وساقني إلى حيث أكره: الغرف الصفراء, والمعاطف البيضاء, والوجوه بلا ملامح, وذاك الرنين المتواصل, الوقح, لأجهزة صماء, ولكنها ليست بكماء, تخبرك على مدار الثانية, بصفاقة العليم, العارف, أنك لست بخير, لكنها – ربما لحسن أو سوء الحظ – بخير!.
نظر الطبيب ببرود مطولاً, إلى وجهي المزرق, ولا حقني بالأسئلة الممجوجة, التي لا تنتمي لي: هل لديك سكر, ضغط, شحوم ثلاثية, مرض مزمن, وراثة عائلية, خوف ما, حالة نفسية؟ فكتبت له على الورق: لو كنت أستطيع الإجابة ما وصلت إليك, ولو كنت أريد أن أقول ما في قلبي, لما اخترت كتفك متكئي, النفي، إجابتي على كل ما سألت, ليس لدي شيء من كل ما ذكرت, فهل لديك علاج لخلوي مما ذكرت!؟.
تجهم وجه الطبيب وقال: أنت مريضة متعبة, فهززت له رأسي موافقة, فتابع: ليس في الأجهزة أمامي ما ينبئ عما بك؟ ها هما الرئتان, وأعلاهما القلب, لا شيء فيهم يدل على مرض, أجبته: صورة قلبي تدلك على المرض, ألم ترى كيف أن شكله لا يشبه صور القلوب في كتب الطب؟ فشكله يأخذ شكل خارطة الوطن, فتش في وجع الوطن, تعرف ما علتي!؟.
لا أظن الطبيب استطاع فهم علتي, فاكتفى بما اعتاد, بضع حبات, وجلسة رذاذ, كمن يضيف سقفاً من القرميد لقلبي المحطم, فغادرته وفي ظهري حقيبة من تساؤلاته: ما الذي تخفينه في قلبك, لماذا هو كجراب الحاوي, والأصح كأصبع الديناميت, لماذا لا تنامين, السهر سيقتلك؟ فألقيت عن ظهري الحقيبة, وشتمت الأسئلة, من قال أن الإجابات علاج .. واهمٌ, “كيوبيد” مثال, يرشق العشاق بسهم, وليس بوردة, ولذلك ما من حب سعيد, الحب أقرب للعداوة منه للود, والكل فيه مغلوب, ووحدهم الحمقى من يبكون رحيله, فالحب مثل الورد, ولد ليموت, ولكن من يقنع القلب؟.
علتي؟ أظن علتي, أن الثقوب التي أحاول جاهدة حفرها, في جدار الليل الصلد, علني أرى نجمة, يسدها الرعاع كل صباح بهرائهم, ونواحهم, ومزاعمهم, وظنونهم أنهم عطية الخالق للكون, وهم لكثرة ما استمعوا لأصواتهم, توهموا أنها ناطقة باسم الرب, كوهم صدفة مهملة على الشط, تظن أنها تنطق باسم البحر, وتنسى أو تتناسى أنها مرمية من جوف البحر!.
علتي؟ أعرف علتي: أنني عندما وصلت وطني بعد دهر, كنت أظن أنني أعانق حياتي, وأن عمراً طويلاً, حافلاً, ممتعاً, يفصل ما بيني وبين القبر, وأن “اللانهاية” حدود أحلامي, ولم أكن أدري أن خفافيش من بيننا, سيدخلوننا تابوت أقصر من قامتي, والغريب أن كثيرين منا تدافعوا لاحتلال مساحة لا تستوعب حتى قامتي, ثم اكتشفوا أنهم قايضوا سماءً, ربما ملبدة, لكنها تبقى سما, بتابوت معتم, وكأننا لا نجيد التعلم إلا في التوابيت المعتمة, وتسألونني بعد ذلك: ما علتي!؟ علتي أن التابوت بات وطن, وكعادتي أخرمش بأظافري درباً إلى وطن, حدوده أكبر بكثير من قامتي.