بسام هاشم :
فجأة اقتحم مصطلح “مناطق تخفيف التصعيد” لغة وقاموس مباحثات أستانا، وكما قد يتخيّل البعض، ربما، دون استئذان. وفجأة دخل البعض أجواء ما يمكن وصفه بالصدمة أو التشكيك أو الافتقاد للثقة، أو اختلال التوازن في أسوأ الأحوال. لربما ذكّر ذلك، على الفور، بالساعات الرهيبة والمشحونة التي سبقت إعلان أوباما عن تجاوز “الخط الأحمر” عام 2013، وضرورة التهيؤ لدخول مرحلة جديدة قاسية ومختلفة نوعياً من الصراع، ولربما كان هناك من يردّد – وفي مناخ التيئيس وإشاعة الإحباط – اللازمة ذاتها عن “قوى عظمى متحكّمة” و”ضغوط خارجية هائلة” يمكن لها – في المحصلة النهائية – أن تفصّل الانتصارات الميدانية التي يسجّلها الجيش السوري يومياً على مقاس توافقاتها ومصالحها الخاصة، أو يمكن لها أن تتعاطى مع كل إنجاز تحقّقه الدبلوماسية السورية، وكل مقاربة وطنية داخلية تقودها، وتشرف عليها، حصرياً، السلطة الشرعية ممثّلة بالدولة السورية ومؤسساتها، بهدف الخروج من الحرب ووقف نزيف الدم، على أنهما (الإنجاز والمقاربة) غير ذي صلة أو خارج السياق..
لربما كل ذلك، وأكثر منه، ولكن القراءة الهادئة والباردة في كتاب الأزمة، والتمعّن الدقيق في الخط البياني على امتداد ست سنوات مضت من الحرب، وقبل ذلك، والأهم منه، الاعتراف بقوة العامل الذاتي السوري الذي مكّن، حتى في أصعب وأحلك الظروف، من الحفاظ على الوحدة الترابية والسيادة الوطنية والقرار المستقل، يحيلنا إلى حقيقة ثابتة وماثلة للعيان مفادها: إن مختلف الضغوط والتهديدات لم، ولن، تزحزح سورية عن ثوابتها الوطنية، ولم، ولن، تدفعها للمساومة أو التنازل أو الرضوخ لأمر واقع ما، أياً من كان وراءه: أصدقاء أم أعداء.. فالمسألة تتعلّق بمصير ومستقبل سورية وبالأمانة التي حملها السوريون عبر الأجيال، وهي تتعلّق أيضاً بثقة سورية بالنصر.
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن حملة تهويشية مدروسة استهدفت التلاعب بالتسميات، فبين “مناطق آمنة” و”مناطق أمنية” و”مناطق حظر” و”مناطق تهدئة” و”مناطق وقف القتال” و”مناطق تخفيف التصعيد” أو “مناطق تخفيف التوتر”، وجد هناك من يحاول التهويل بـ “تنازل” ما، بل وتقصّد البعض الإحالة إلى الـ “تفتيقات” الشهيرة لترامب وأردوغان. ولكن شحّ المعلومات سرعان ما عوّضت عنه التسريبات الإعلامية المجتزأة، والتصريحات المقتضبة والإيضاحية للمسؤولين الروس خلال الساعات التي سبقت مباشرة، ورافقت، بدء الاجتماع في العاصمة الكازاخية، ذلك أن مشاورات روسية سورية سبقت الإعلان عن وثيقة جديدة تندرج في سياق “تثبيت” اتفاق وقف العمليات القتالية الذي جرى التوافق عليه في أستانا 2، ولا تتجاوز كونها جهداً تقنياً متقدّماً يضع الأطراف الضامنة أمام مسؤولياتها العملية لمراقبة وقف النار.. مراقبة مؤقّتة وحسب يقوم بها عناصر من الشرطة العسكرية بصلاحيات محدّدة ومقيّدة، وليس قوات مسلحة نظامية مفوضة بالتدخل أو الفصل في النزاعات. كما تركّز الوثيقة على نزع المظاهر المسلّحة في المناطق المشار إليها، والتي سيتمّ الاتفاق عليها، بما يوفّر الظروف المناسبة لحوار سياسي يقوم على أساس وحدة الأراضي السورية بالكامل ووحدة قيادتها السياسية، على أن تنخرط المجموعات المسلحة المعنية، الموقّعة على الوثيقة، في القتال ضد تنظيمي “داعش” و”النصرة” والمجموعات المرتبطة بهما، جنباً إلى جنب مع الجيش العربي السوري.
لقد ولدت الوثيقة الجديدة من رحم اتفاق وقف الأعمال القتالية، وإلا فما معنى “وقف التصعيد” إن لم يكن “تثبيت وقف النار”؟. وما الفرق بينه وبين ما يجري على الأرض من مصالحات تقودها الدولة السورية منذ وقت طويل، وتتمسّك بها بعد أن أثبتت فعاليتها في أكثر من مكان، خاصة في ظل الرفض الشعبي المتنامي لوجود المسلحين في مختلف المناطق، وتمسّكهم بدولتهم كضامن وحيد للأمن والاستقرار؟.
تفترض الوثيقة الجديدة إغلاق الباب على الدعم الخارجي للمجموعات الإرهابية، وإنهاء ظاهرة حروب الوكالة والارتزاق، وهي تعتبر شكلاً متقدّماً من “الهدنة” يشترط هذه المرة عدم رفع السلاح في وجه الجيش العربي السوري، القوة الشرعية الوحيدة على الأرض. وطالما أن مصلحة السوريين هي البوصلة، فإن الشجاعة السياسية تتطلّب تلقف أية فرصة سانحة في هذا المجال، ولا مجال للتردد أو إساءة الفهم، فـ “كل لحظة تمر في سورية اليوم هي لحظة انتصار”.