الآثـار السورية… تنقيب وتخريب جهاراً نهاراً تصدرت واجهات المتاحف العالمية وحصة «داعش» الثلث ..مواقع أثرية من لائحة التراث العالمي إلى لائحة الخطر وتعافيها يستغرق 15 سنة

 

ميليا إسبر:تشرين
لا إحصاءات دقيقة أو حتى تقديرية عن عدد القطع الأثرية التي هربت إلى الخارج ليستقر مصيرها على واجهات المتاحف العالمية وتباع في المزادات العلنية.
من غير الممكن تحديد قيمة الخسائر المادية التي لحقت بالتراث السوري أو نسبة الضرر بسبب التدمير الممنهج والمستمر للمواقع الأثرية وكذلك عدم القدرة على معاينة العديد من المواقع المتضررة لتحديد قيمة أضرارها بحسب ما أكده الخبراء والباحثون في مجال الآثار، لم يتوقف الأمر على هذا فحسب بل تقلصت البعثات الأجنبية الخاصة بالتنقيب من 103 بعثات قبل الحرب إلى بعثة مشتركة فقط هنغارية- سورية.
هذا التحقيق يوضح مدى حجم التدمير الذي طال الآثار السورية، والجهود التي تبذلها الجهات المعنية بالآثار وعلى رأسها المديرية العامة للآثار والمتاحف بالتعاون مع منظمات عالمية من أجل حماية الآثار والحفاظ عليها والأهم من ذلك العمل على استعادة ما سرق منها.
القطع المتحفية بخير
مدير شؤون المتاحف في المديرية العامة للآثار والمتاحف الدكتور نظير عوض أكد وجود خسائر في مباني المتاحف، فمنها ما تعرض لأضرار كبيرة مثل مبنى متحف تدمر، وبعضها أضراره متوسطة كمبنى متحف حلب، أما القطع المتحفية فهي بخير فقد أفرغ متحف دير الزور بالكامل وتم نقلها إلى أماكن آمنة، وأيضا نقلت القطع الأثرية من متحفي حماة وحمص إلى مناطق آمنة وهي الآن في ظروف جيدة، مشيراً إلى أن سورية حققت رقماً صعباً في هذا الإطار وأنّ التجربة التي حصلت في مجال حماية المتاحف خلال الحرب كانت أفضل تجارب العالم منذ الحرب العالمية وهذا باعتراف الكثير من المنظمات الدولية وعلى رأسها اليونيسكو، موضحاً أنه قبيل الاجتياح الأول لتنظيم داعش على تدمر تم نقل 850 قطعة تعد من أهم القطع الأثرية الفنية في العالم وليس في تدمر فقط أغلبها يعود إلى الفن التدمري.
غياب الإحصائيات
لا رقم مؤكداً أو حتى تقديرياً للقطع الأثرية التي تم تهريبها إلى الخارج بحسب ما أكده الدكتور عوض، وأنه في حال لم تتعاون دول الجوار وتصادر الآثار المهربة وتخرج بها لوائح فنية تصفها وترسلها إلى جهات أخرى فلا يمكن لنا أن نملك معلومات عن هذه القطع من أجل المطالبة باستردادها، علماً أنه تمت استعادة 5000 قطعة أثرية، منها مهرب ومنها ما كان معداً للتهريب تم ضبطها على الحدود خلال محاولة عبورها إلى الخارج، مبيناً أنه من غير الممكن تحديد قيمة مادية للخسائر قبل معاينة دقيقة لكل المواقع الأثرية التي تعرضت للأضرار خلال الحرب، مثلا في مدينة حلب 30% من أسواقها متضررة بشكل كبير، في حين 98% من الجبهة البصرية لموقع تدمر الأثري لا يزال موجوداً، بينما تعرضت مكونات مهمة جداً لمخاطر جمة.
مدير شؤون المتاحف كشف عن وجود تواصل مستمر خلال سنوات الحرب مع المؤسسات الخارجية التي تعمل في هذا الاطار وعلى رأسها اليونيسكو والايكموس والايكروم وحتى الانتربول الدولي في مراسلات حول الاتجار غير المشروع، كما أصدرت المديرية العامة للآثار اللائحة الحمراء التي تحتوي على نماذج لأهم القطع الأثرية السورية لتعمم على الكثير من المحافل الدولية بمواصفاتها وصورها وغير ذلك ما يؤكد هويتها، علماً أنّ القطع الموجودة على اللائحة الحمراء ما زالت بخير وفي أماكن آمنة.
على لائحة الخطر
المواقع الأثرية الموجودة على لائحة التراث العالمي طالها التخريب والتدمير من قبل الجماعات الإرهابية فقد تعرضت لعمليات تنقيب وحشية وضعتها على لائحة الخطر.
مديرة موقع التراث العالمي المهندسة لينا قطيفان أكدت أنّ مواقع دمشق القديمة وتدمر ومدينة بصرى وقلعتي الحصن وصلاح الدين إضافة إلى 11 قرية أثرية في شمال سورية تقع بين محافظتي حلب وادلب كل تلك المواقع مسجلة على لائحة التراث العالمي، لكن خلال سنوات الحرب تعرضت لضرر كبير، وبات الخوف عليها من أن تفقد قيمتها العالمية، انطلاقا من ذلك تمّ وضعها في عام 2013 على لائحة المخاطر وهي عبارة عن لائحة تلقي الضوء على المخاطر التي يتعرض لها التراث، كذلك تحشد الجهود الدولية لإعادة تأهيلها وعودتها إلى مرحلة التعافي، مضيفة: إنه منذ ذلك التاريخ والتواصل مازال مستمراً مع منظمة اليونيسكو لتقديم تقارير سنوية دورية عن حالة المواقع، مع تزويدنا بخبراء متخصصين بمجالات تقنية متطورة بهدف الحماية المعززة للمواقع الأثرية، علماً أن أكثر مواقع التراث العالمي ضرراً حلب وتدمر، وأقلها دمشق القديمة.
فقدت ملامحها الأثرية
كثيرة هي المواقع الأثرية في حلب التي لم نستطع التعرف عليها، غابت ملامحها الأثرية بالكامل مثل ساحة الحطب فهي منطقة مدمرة كلياً بحسب قطيفان، فمن خلال الجولات الميدانية على مدينة حلب بعد تحريرها وجد أنّ نسبة الدمار كبيرة ولاسيما بمحيط القلعة نتيجة تفجير الأنفاق من قبل الجماعات المسلحة، ما جعل العديد من المباني الأثرية التي تملك قيمة عالمية تدّمر بشكل كامل، إضافة إلى أضرار متوسطة وصغيرة بأماكن أبعد من محيط القلعة كون القلعة كانت نقطة تماس لذلك كانت الأكثر ضرراً، وأيضاً تدمير الكثير من المنازل التي تعود إلى فترات مهمة تمثل تاريخ حلب وكذلك متحف التقاليد الشعبية – بيت أجق باش – بيت غزالة – متحف ذاكرة حلب كما دمرت بعض معالم المدينة كحمام يلبوغا إضافة إلى معالم أكثر حداثة تعود إلى بداية القرن العشرين كدار البلدية وغيرها.
قطيفان كشفت عن وجود مشروع مع UNDP يتعلق بمحافظة حلب يتضمن إزالة الركام من الأماكن والمواقع التي تعرضت للضرر، بحيث يستطيع فريق عمل المديرية العامة للآثار والمتاحف الدخول إلى المناطق المتضررة وتقييم الأضرار بهدف عملية إعادة التأهيل ومعرفة الكلف اللازمة لكي يعود سكان المنطقة إلى منازلهم.
حال تدمر
موقع تدمر الأثري لم يكن في أحسن حال من حلب فقد أصابه تخريب ودمار كبيران نتيجة تفجير تنظيم داعش الإرهابي لعدد كبير من المعابد منها معبد بل، ومعبد بعل شامين وأيضاً ستة مدافن برجية وكذلك قوس النصر، بينما في الاعتداء الثاني تم تفجير التترابيل ومقدمة منصة المسرح هذا عدا عن عمليات النهب نتيجة التنقيبات السرية التي لا نعرف حتى الآن مدى الضرر الذي لحق بالمنطقة لأنها حفريات تحت الارض وليست موثقة ولا تملك سجلات لدى المديرية العامة للآثار، لذلك من غير الممكن تحديد القطع الأثرية التي اختفت حتى الآن.
مديرة التراث العالمي أوضحت أنّ إعادة تدمر إلى ألقها تتطلب تعاوناً دولياً حثيثاً إلا أنّ المسألة أيضاً تحتاج إلى موارد مادية ووقت طويل، وكذلك دراسة كافية من أجل المحافظة على قيمتها العالمية التي سجلت على أساسها، وهذا ضروري ومهم جداً لكي تتم ازالتها من لائحة الخطر، لافتة إلى أنّ الموقع الذي يوضع على لائحة الخطر يستغرق مدة تتراوح من 10- 15 سنة لوضع خطة تعافي لتلك الموقع والتي تكون مراقبة من قبل منظمة اليونسكو، من حيث تطور أعمال الترميم حتى نتمكن من القول إن الموقع أصبح جاهزاً، وتالياً استعاد القيمة التي فقدها، مشيرة إلى أنّ موقع بصرى الأثري لا يزال تحت سيطرة المجموعات المسلحة لكن ترد معلومات بأن الأضرار فيه بسيطة ومحدودة حتى اللحظة، كذلك 11 قرية أثرية تقع بين ريفي حلب وادلب فإنها تخضع لسيطرة التنظيمات الإرهابية، إلا أنّ الموقعين يتمتعان بمنطقة صخرية صعبة فهي منطقة الجبال الكلسية الممتدة من حماة إلى أنطاكية لذلك عمليات الحفر والتنقيب السري فيها قليلة، لكن الأخطر هو تكسير الحجارة الأثرية من قبل سكان المنطقة من أجل إعادة بناء البيوت الريفية، لافتة إلى أن درجة التكسير طالت النواويس في المدافن الهرمية بمدينة البارة الواقعة في جبل الزاوية، مؤكدة أنّ هذه الظاهرة تسببت في خلل بالمشهد الثقافي الذي سجلت على أساسه القرى الأثرية.
12 موقعاً على اللائحة التمهيدية
قطيفان بينت أنّ هناك مواقع أثرية أخرى موجودة على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي وهي عبارة عن 12 موقعاً أثرياً منها نواعير حماة – مدينة الرافقة – دورا أوروبس- ماري– جزيرة أرواد – كنيسة كاتدرائية طرطوس – أوغاريت – رأس شمرا – تنتظر تسجيلها على لائحة التراث العالمي، علماً أن جزءاً من هذه المواقع تضرر أيضاً ولاسيما الموجودة منها في دير الزور والفرات، مؤكدة أن الصور الفضائية التي عرضت في عام 2014 على مواقع الانترنت أظهرت أن مواقع دورا أوروبس وماري وأفاميا تعرضت لعملية تنقيب شرسة جدا طالت كامل مساحة الموقع حيث خرجت منها قطع أثرية لكن لا نستطيع معرفة أعدادها، وحتى السويات الاثرية التي تدل على مراحل معينة من تاريخ سورية تعرضت لتخريب استخدمت فيها آليات ثقيلة، وحدث ذلك منذ بداية الازمة عندما فتحت الحدود مع العراق وتركيا كانت هناك مافيات متخصصة بتجارة الآثار من الأجانب وغيرها التي دخلت البلاد، وما زاد الطينة بلة دخول «داعش» وأصبح يأخذ من قيمة المكتشفات نسبة الثلث حيث يتم تهريبها عبر الحدود لنجدها بعد ذلك في المزادات الدولية مثل بريطانيا ونيويورك، مؤكدة أنه رغم كل الظروف الصعبة فإن المديرية العامة للآثار تلاحق أي قطعة في حال وجدت بأي مكان يعرض قطعة أثرية سورية، وأنّ القرار رقم 2199 يدين ويجرم كل الدول التي تتاجر بالقطع الأثرية السورية والعراقية، لهذا كل قطعة يثبت خروجها من سورية خلال الحرب فإنّ عملية استردادها أسهل من قبلها في حال قدمت الثبوتيات ويمكن الحصول عليها، أما قبل ذلك فكان صعباً ويحتاج إلى اجراءات دبلوماسية وأحيانا قضائية، مؤكدة أن بقية المواقع على اللائحة التمهيدية لم تتعرض لأي ضرر، علماً أن ملف التسجيل يحتاج إلى سنتين لإعداده، كذلك يتطلب مخططات تفصيلية ومعلومات وصوراً مع تحديد أهمية مشاركة الخبراء في تقييم الموقع الأثري.
الحماية الطارئة
مديرة موقع التراث العالمي بينت أن وزارة الثقافة بالتعاون مع منظمة اليونسكو أنشأت ما يسمى «مرصداً» يهدف لرصد الأضرار التي تطول التراث الثقافي السوري، كذلك أنشأت مشروع «الحماية الطارئة لتراث الثقافة السوري» والذي يركز على التدريب والتوعية، إضافة إلى تقديم مشورات وخبرات تقنية لبناء قدرات المشروع، الذي كانت مدته 3 سنوات، بدأ عام 2014 وحتى عام 2016 لكن تم تمديد المدة حتى العام الحالي، وخلال تلك الفترة الزمنية تمّ تأهيل العديد من العاملين بمديرية الآثار، إضافة إلى دورات تتعلق بالأرشفة والتوثيق السريع للأضرار التي لحقت بالموقع الأثري، وتقييمها بشكل منهجي ضمن الكود الدولي.
تنقيب جهاراً نهاراً
مدير التنقيب والدراسات الأثرية أحمد طرقجي أشار إلى أن التنقيب والتخريب للمواقع الاثرية كان موجوداً قبل الحرب لكن بشكل محدود وفردي، أما في الوقت الراهن فقد أصبح جهاراً نهاراً من قبل لصوص الآثار مستغلين غياب السلطات الأمنية في كثير من المناطق، حيث استخدموا فيها الآلات الثقيلة والجرافات لتخريب السويات الأثرية وهذا أكثر ما يهدد القيم الحضارية والثقافية للبلد.
أبرز المواقع التي تعرضت للتنقيب حسب طرقجي هي مملكة ماري ودورا أوروبس في محافظة دير الزور وقلعة الرحبة في الميادين، وموقعا حلبيا وزلبيا إضافة إلى تلال أبو علي، وتل السن، لافتاً إلى أن أكبر نسبة تخريب وتنقيب كانت في موقع أفاميا وتل قرقور، وفي حلب تعرضت تل أم المرأة وتل شاش حمدان وكذلك موقع الأنصاري إلى السرقة، مؤكداً أنّ اعادة تأهيل وترميم تلك المواقع الأثرية يحتاج إلى مبالغ باهظة وإلى فترة زمنية طويلة.
تقلص البعثات الأثرية
قبل الحرب كان عدد البعثات الأثرية الأجنبية والمشتركة 103 بعثات تعمل في مجال التنقيب في كل المحافظات السورية، بينما تقلصت خلال الحرب إلى 12 بعثة محلية وبعثة أثرية واحدة مشتركة سورية- هنغارية، في حين انعدمت البعثات الأجنبية.
مدير التنقيب كشف عن رغبة المديرية بعدم التنقيب والحفر في مواقع أثرية جديدة تم اكتشافها خلال الأزمة خشية أن يعلم بها لصوص الآثار ويقدموا على حفرها وسرقتها، مؤكداً أنه في مثل هذه الأحوال يكون عدم التنقيب أفضل بكثير، وأن عمليات التنقيب تتم حالياً من خلال بعثات وطنية فقط وفي المحافظات الآمنة السويداء – طرطوس – اللاذقية.
وختم طرقجي بالقول: إنّ التنقيب عن الآثار هو مردود ثقافي وحضاري يضيف خلاله صفحات جديدة للتاريخ الثقافي والانساني السوري والعالمي ،مشددا على ضرورة وعي المجتمع المحلي بالتعاون مع السلطات الأثرية في الحفاظ على هذا الإرث الحضاري المتميز لأنه ملك لجميع أبناء هذا الوطن.
ترميم مباشر
لم نتوان عن ترميم أي منطقة بعد تحريرها مباشرة ضمن الإمكانات المتاحة، رغم ظروف العمل الصعبة والخطرة، هذا ما أكده مدير الهندسة في مديرية الآثار والمتاحف المهندس أيمن هاموك، فبعد تحرير حلب تمت مباشرة أعمال الصيانة والترميم للمناطق الأثرية، وكذلك حماية مدفن تل البنات، وأيضاً تغطية وحماية التماثيل الحجرية بهدف حمايتها في متحف حلب، مشيراً إلى أنه تمّ تصفيح أبواب مستودعاته بشكل فني سليم وآمن مع رفع منسوب أرضيته من أجل حماية القطع الأثرية، وذلك بسبب قربها من نهر قويق، كاشفاً عن توثيق الأضرار في المدينة القديمة وفق استمارات معتمدة من اليونسكو ضمن مستويات، وما زال العمل مستمراً حتى الآن، إضافة إلى تنفيذ مشروع جسر خشبي طارئ لدرج القلعة. بجوار الباب الرئيس يمكن الزوار من الدخول إليها.
هاموك أوضح أن أعمال الترميم بدأت في حمص أيضاً بعد تحريرها حيث تم ترحيل الأنقاض من المدينة القديمة، وأيضاً ترميم قصر الزهراوي، وكذلك المشاركة في ترميم واجهات الجامع الكبير في المدينة القديمة والإشراف عليها إضافة إلى ترميم كل من جوامع الأوزاعي وذي القلاع الحميري، وكذلك جامع الأربعين وخالد بن الوليد. . أما فيما يتعلق بترميم مدينة تدمر فقد أوضح مدير الهندسة أنه تمت الحماية الأمنية لجميع أبواب الدخول إلى المتحف، إضافة إلى حماية مستودعات المدينة، لافتاً إلى أنه تمّ توثيق الوضع الراهن لمدينة تدمر من خلال صور رقمية والبدء بجمع المعلومات التاريخية عن المواقع المتضررة لوضع التصور الأولي لأعمال الترميم. . وختم بالقول: إنه يوجد الكثير من أعمال الصيانة والترميم في كل المواقع الأثرية التي تم تحريرها من المجموعات الإرهابية التي تهدف إلى الحماية والحفاظ على التراث الثقافي والحضاري لسورية.

اخبار الاتحاد