د:مازن المغربي:البعث
أدت سياسات دول المعسكر الرأسمالي، بزعامة الولايات المتحدة، إلى رفع حدة التوتر في مختلف أرجاء العالم: حروب عدوانية ضد اليمن وسورية، سياسة حافة الهاوية ضد كوريا الديمقراطية على الرغم من كل المخاطر التي يمكن أن تنجم عن مثل هذا المواجهة، تهديد وعقوبات ضد روسيا وإيران، وتوتيرات اجتماعية وسياسية تزعزع أسس الاتحاد الأوروبي. وقد يخال للمتابع أن الموضوع يتعلق بأحداث لا رابط بينها، لكن التعمق بعض الشيء في التحليل يظهر أننا نعيش في مرحلة انتقالية مفتوحة على شتى الاحتمالات. والدولة العميقة في الولايات المتحدة تعي حقيقة أن الإمبراطورية تعيش، مثلها مثل كل الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، مرحلة ما قبل الانحدار الحتمي: الانقسام العنصري يهدد وحدة المجتمع، ومنظمة “أمة الإسلام” بزعامة لويس فرقان لا تخفي طموحاتها في بناء دولة خاصة بالمتحدرين من أصول أفريقية، يضاف إلى ذلك وجود ملايين المتسللين عبر الحدود الجنوبية، والذين يتم استغلالهم في أسواق العمل السوداء، وتعالي أصوات في بعض الولايات تطالب بالانفصال عن واشنطن.
لكن ما يثير الفضول هو الغياب العملي لتحركات الاحتجاج الجماهيرية في معظم أنحاء العالم. وهنا ثمة تناقض مريب، فالولايات المتحدة بسياساتها المتهورة تهدد البشرية ولكنها لا تواجه أي ممانعة جماهيرية جدية، والشارع في كل البلاد العربية وغير العربية ساكن ولا يبدي أي تحرك يعول عليه. ولنقارن الوضع الراهن مع ما حدث عند بداية التحضير لاجتياح العراق عام 2003، عندما نزل ملايين البشر إلى شوارع العالم للاحتجاج ضد الحرب، بالتوافق مع إعلان القيادات السياسية في كل من ألمانيا وفرنسا وروسيا معارضتها للحرب.
بدأت حركة المعارضة الشعبية للحرب في الولايات المتحدة مع بدء التحضيرات للعدوان على العراق، واستمرت خلال مرحلة الغزو والاحتلال. ففي الشهور التي سبقت بدء العمليات العسكرية اندلعت تظاهرات شعبية في مختلف مدن الولايات المتحدة. وشهد يوم الخامس عشر من شباط 2003 أكبر حشد شعبي ضد الحرب عندما نزل قرابة الأربعمائة ألف متظاهر إلى شوارع مدينة نيويورك، وترافق ذلك مع مظاهرات أقل حجماً شهدتها مدن سياتل وسان فرانسيسكو وشيكاغو وغيرها من المدن الأمريكية.
وأشار استطلاع أجراه مركز مرتبط بصحيفة نيويورك تايمز، قبل بدء الحرب، إلى أن 63% من الذين شملهم استطلاع الرأي أعربوا عن رغبتهم الواضحة في إيجاد حل ديبلوماسي بديل عن الحرب.
ولم تقتصر حركة الاحتجاج على الولايات المتحدة، ففي 15 شباط 2003، أي قبل شهر من الغزو، انطلقت سلسلة من الاحتجاجات العالمية ضد التحضيرات العسكرية للحرب على العراق، بما في ذلك حشد من ثلاثة ملايين شخص في روما. وأشار بعض الدراسات إلى أن الفترة الممتدة من الثالث من كانون الثاني وحتى السادس عشر من نيسان 2003 شهدت ما يقارب 3000 اجتماع احتجاجي ضد الحرب شارك فيها قرابة 36 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم.
ثمة قول مأثور للزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو مفاده أن الامبريالية تلميذ غبي يكرر أخطاءه، لكن يبدو أن التجربة المعاصرة برهنت على المرونة الفائقة للنظام الرأسمالي، وعلى قدرته على الاستفادة من أخطاء الماضي، وعلى الاهتمام الكبير بدور الإعلام في تشكيل وتوجيه الرأي العام وصولاً إلى التلاعب به.
صار التضييق على الحريات العامة سمة مشتركة في العديد من بلدان الديمقراطيات الغربية. فالولايات المتحدة تبنت، منذ عام 2001، قراراً حمل اسم “القانون الوطني” وقعه الرئيس جورج دبليو بوش أطلق يد الأجهزة الأمنية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. وفي أيار 2011، وقع الرئيس أوباما على نص وسع صلاحيات الأجهزة الأمنية وسمح بفرض مراقبة مشددة على أي مشتبه به، بما في ذلك اقتحام مقر عمله أو سكنه في غيابه، وبدون أي إذن قضائي مسبق. كما شهد شهر حزيران 2015، تبني تعديلات جديدة تمت صياغتها على شكل مذكرات قانونية هي في واقع الأمر بمثابة أحكام عرفية ستظل سارية المفعول حتى عام 2019.
وعلى التوازي تعيش فرنسا في ظل حالة الطوارئ التي فرضت في أعقاب هجمات الثالث عشر من تشرين الثاني 2015، وتم تجديدها بشكل متتال، وتم استخدامها لتبرير توقيف آلاف المشتبه بهم، واقتحام مساكنهم دون أي سند قانوني.
وفي سياق تشديد القبضة الأمنية على مختلف مرافق الحياة العامة، تم نشر كاميرات مراقبة في كل زاوية من شوارع المدن والبلدات، كما تم تشديد الرقابة على بيانات الاتصالات الشخصية والحسابات المصرفية. ولم تنج شبكات التواصل الاجتماعي من الرقابة، حيث قامت شركات البرمجيات الكبرى، وبشكل خاص مايكروسوفت، بتطوير برمجيات تسمح بمراقبة أي اتصال كما تسمح باختراق حسابات البريد الإلكتروني لأي شخص بما في ذلك كبار الشخصيات.
وامتدت عمليات المراقبة إلى الوسط الأكاديمي، ففي أستراليا على سبيل المثال، تم إحالة مدرس جامعي إلى مجلس انضباطي بعد تقديمه تحليلاً علمياً عارض الرواية الرسمية لما حدث في خان شيخون.
وقد استثار الدكتور تيم أندرسون، من جامعة سيدني الأسترالية، وأحد الناشطين في مجال تفنيد السرديات الرسمية الكاذبة التي تروجها وسائل الإعلام الكبرى المملوكة من قبل أوساط مقربة من الطغمة المالية، غضب سلطات بلاده بعد قيامه بنشر تعليق نفى فيه وجود أي دليل ملموس مقنع على مسؤولية الجيش السوري عما حدث في خان شيخون، في 4 نيسان الفائت، وكانت النتيجة استهداف هذا الأكاديمي من قبل الإعلام المرتبط بمراكز القرارات السرية. كما شملت الحملة الإعلامية إدارة جامعة سيدني من خلال تحريضها على اتخاذ إجراءات انضباطية بحق الرجل إلى حد دفع وزير التعليم إلى التصريح بضرورة التحقيق في موضوع تعليقات أندرسون.
قد تكون الظروف العامة، وهيمنة أجهزة الإعلام على عقول الناس، من أهم العوامل التي حالت دون قيام حركة اعتراض جماهيرية كبرى ضد الحروب العدوانية التي شنتها، أو تحضر لها، الولايات المتحدة وأتباعها، لكن هذا التفسير لا يكفي، فمن غير المعقول ألا تستثير مخاطر الحرب انتباه الجماهير خصوصاً بعد ما تبين أن كل الذرائع التي طرحت لتبرير اجتياح العراق كانت أكاذيب، بما في ذلك خطاب كولن باول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى النتائج الكارثية للحرب التي قضت على ملايين العراقيين، وحولت ذلك البلد الثري إلى دولة مقسمة وقسمت المجتمع إلى جماعات طائفية متناحرة.
لكن برزت في خضم الهجمة الإعلامية المنظمة ضد الدولة السورية بعض الأصوات المعترضة التي قامت بتفنيد كذب سرديات الإعلام الموجه، وقامت بعض الشخصيات السياسية والإعلامية بطرح وجهات نظر مغايرة عما يجري في سورية. وكانت قناة روسيا اليوم من أبرز المنابر الإعلامية التي قدمت سرداً موضوعياً لما يدور في سورية، لكن المفاجأة الحقيقية جاءت من الولايات المتحدة حيث واظب موقع (“الاشتراكية العالمي” (WSWS.org، منذ اندلاع الأزمة السورية، على نشر مقالات تحليلية تناولت أسباب استهداف سورية، كما نظم الموقع، خلال السنوات الماضية، العديد من حملات التضامن والمعارضة لشن العدوان على سورية. ومع تصاعد حدة التوتر في المنطقة خلال الأشهر المنصرمة، قام حزب “المساواة الاشتراكي”، المشرف على الموقع، بتنظيم مجموعة من النشاطات التي هدفت إلى نشر الوعي بمخاطر تصعيد التوتر في سورية واحتمال الاصطدام بقوة إقليمية، هي إيران، أو بقوة كبرى، هي روسيا. وعلى سبيل المثال، نشر الموقع، في 20 كانون الأول 2016، مقالاً بقلم أندريه دامون يتعلق بأبعاد ما حدث في حلب من خلال سرد تحليلي مفصل. وسبق ذلك نشر مقال حمل عنوان “نفاق واشنطن فيما يتعلق بحلب” بقلم بيل فان أوكن الذي تابع من خلال سلسلة مقالات معركة حلب ودور الولايات المتحدة في تزويد الإرهابيين بصواريخ أرض جو.
وفي 11 كانون الثاني 2017، نشر الموقع مقالاً، بقلم جوردان شيلتون، تناول الغارات الجوية التي نفذتها طائرات الولايات المتحدة، وأدت إلى سقوط عشرين قتيلاً. وغطت المقالات مختلف جوانب الأزمة في سورية، بما في ذلك حملات التضليل الإعلامي، وحذرت من وجود مخططات للتصعيد في سورية. وتابع الموقع بالتفصيل تداعيات الغارات على مطار الشعيرات، حيث أدان أندريه دامون، في مقال نشره في 8 نيسان 2017، تلك الغارات، وحذر من مخاطر أن تكون خطوة على طريق المزيد من التدخل العسكري، وشدد على الدور التحريضي الذي تلعبه وسائل الإعلام المقربة من الحزب الديمقراطي الأمريكي، مثل صحيفة “النيويورك تايمز” صاحبة الخبرة الواسعة في نشر الأكاذيب.
وعند مراجعة الموقع بتاريخ الثامن من نيسان نلاحظ وجود خمسة مقالات تتعلق بالشأن السوري، حيث كتب يوهانس شتيرن مقالاً حول دعم الحكومات الغربية للغارة التي استهدفت المطار السوري، ومقالاً ثانياً تناول دور الإعلام الألماني في التحريض على شن الحرب ضد سورية. وثمة مقال رابع، بقلم باتريك مارتن، حمل عنوان “كذب ونفاق فيما يتعلق بهجمات الغاز في سورية”، ومقال خامس، بقلم بيل فان أوكن، يتعلق بتهديدات واشنطن بشن المزيد من الغارات ضد سورية. وكان الموقع نشر في 7 نيسان ثلاثة مقالات تحليلية حول الوضع في سورية بعد الغارات الأمريكية.
تندرج نشاطات الموقع في تناول الوضع في سورية في إطار رؤيته الشاملة المناهضة للحروب العدوانية في كل مكان، وجهوده لبناء حركة دولية مناهضة للحرب تعتمد بالأساس على الشباب وعلى الطبقة العاملة، وهما الفئتان اللتان تدفعان الثمن الأكبر في الحروب. ويتوجه الموقع بخطابه إلى مختلف الشعوب، حيث ينشر المعلومات والدراسات بأكثر من عشرين لغة، بما فيها اللغة العربية. ويستند هذا الموقف إلى فكرة أن الحروب سمة من سمات النظام الرأسمالي، ونتيجة حتمية للصراع بين القوى الرأسمالية بهدف الهيمنة على أكبر قدر من موارد العالم، دون أي مراعاة للخسائر البشرية أو الأضرار البيئية. ويمكن القول أن هذا الموقع يمثل مصدراً ثرياً بالمعلومات والتحليلات العميقة لمختلف الأحداث التي يشهدها عالمنا المضطرب..