بسام هاشم : البعث
حتى الآن لا تزال إدارة /إدارات/ ترامب ترفض الحديث بلغة سياسية واضحة تجاه الوضع في سورية، ولا تزال استراتيجية أوباما في “القيادة من الخلف”، مع بعض التعديلات الطفيفة، هي المفضّلة كصيغة عمل، وإن كانت تخضع اليوم لإشراف جنرالات البنتاغون مباشرة. وحتى هذه اللحظة، لم يتفوّه ترامب بما هو أبرز من التأكيد الأجوف على أن “القتل المروّع في سورية يجب أن يتوقّف وأن الجميع يعمل من أجل ذلك”، وهي عبارة إنشائية فضفاضة تليق بالعجز المزمن لمنظمة دولية كالأمم المتحدة، ولا ترقى أبداً إلى مستوى المواقف السياسية العمليّة لدولة عظمى لطالما تبجّحت بمسؤولياتها والتزاماتها الدولية، وصمّت الآذان بالحديث عن رسالتها العالمية ورياديتها، ولم تتردّد باللجوء إلى استخدام القوة والتلويح بها دفاعاً عمّا تسميه مبادئ العدالة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
وحتى “الاستعداد” الأمريكي للتعاون مع موسكو حول سورية ضمن صيغتي أستانا وجنيف – كما أعلن عن ذلك الوزير لافروف عقب اجتماعه مع الرئيس الأمريكي أمس في البيت الأبيض- لا يعدو كونه نوعاً من شراء الوقت، ولا يتجاوز حدود الاستمرار بأخذ العلم بالصيغ القائمة على الأرض – والمفروضة ربما! – بانتظار فرصة بناء استراتيجية خاصة و”مستقلة”، لكي لا نقول موازية أو مضادة. وهنا قد يمكن إدراج المواقف الترامبية في التحشد العسكري مع الأردن جنوب سورية، وتزويد بعض الفصائل التي “تقاتل” في شمال سورية بـ “أسلحة ومعدات للمساعدة في طرد تنظيم داعش من معقله في الرقة”، في إطار التمويه عن مشهد البلبلة الاستراتيجية التي يتعيّن على البنتاغون، حتى إشعار آخر، تبديدها عملياتياً، ولو من خلال استعراضات فاشلة للقوة، والتي يتعيّن أن تسدّها أيضاً “اللمسة الترامبية” الممثّلة بتصعيد نوع غير مسبوق من سباق التسلّح الإقليمي والعالمي لأغراض اقتصادية ومالية بحتة، كأن يجري الانقلاب على الاتفاق النووي مع إيران، والانخراط في صراعات العائلة الحاكمة السعودية، عبر الموافقة على تسريع ترتيبات انتقال العرش إلى “سلالة سلمان” مقابل مئتي مليار دولار من الاستثمارات والصفقات العسكرية الشبحية، أو العمل على تشكيل “ناتو إسلامي” على قاعدة الشروط المالية الجديدة المطروحة على “الحلف الأم” على ضفتي الأطلسي، أو التلويح بالحرب ضد بيونغ يانغ على أمل ابتزاز اليابان وكوريا الجنوبية بموجب اتفاقات الحماية الأمنية.
لقد اعترف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، جوزيف دانفورد، على هامش زيارة الوزير لافروف، أن “روسيا تريد مشاركة الولايات المتحدة في تأمين مناطق خفض التوتر في سورية، ولكن القيادة الأمريكية لم تتخذ القرار في هذا الشأن بعد”.. لعل ذلك يشي بحجم مأزق واشنطن ترامب التي تجد نفسها أمام مسار سياسي وأمني متاح، وقد يقود إلى وقف “القتل المروّع” ذاك، ولكنها تتردد في التعاطي معه، دون أن تتجرّأ على رفضه، أو تقديم بديل مناسب له، مكتفية بالتفهّم عن بعد، ومراقبة المذبحة اليومية بحق الشعب السوري، بل وتمدد العقوبات الاقتصادية أوتوماتيكياً بحق سورية، وكأن إدارة أوباما لا تزال قائمة على رأس عملها، وكأن “ضربة الشعيرات” – كما هي في حقيقتها – مجرد حركة خفّة بهلوانية خارج أي رؤية سياسية مزعومة، وخارج أي استثمار، أو متابعة، وحتى خارج أي تراجع أو اعتراف بالخطأ، لتصبّ حصراً في مصلحة المجموعات الإرهابية، وتفتح أمامها هامشاً جديداً للمناورة، ولو كان ضيّقاً ومؤقّتاً، كما لحظنا حين تحوّل مجلس الأمن طوال أسابيع إلى منصة مفتوحة للمرافعة عن “القاعدة” و”النصرة”، وحين تحوّلت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية وأشباهها من منظمات حقوق الإنسان إلى مسجلي عرائض كاذبة ومزيفة.
طالما أن ترامب لا يشعر بالسيطرة في الداخل – وهو لن يشعر بذلك أبداً لأن ما يتغيّر في الولايات المتحدة الأمريكية يرتدي طابعاً تاريخياً عميقاً يطال بنية السلطة بكل معنى الكلمة – فلن نشهد إلا هذا النوع من السلوك السياسي القائم على المواربة والتريث والتأجيل المحكوم بافتقاد القدرة على الإمساك بزمام مبادرة جريئة وخلاقة، والمعلّق (السلوك) على اندفاعات ارتكاسية وغير متوقّعة لرجل يتعامل مع المتغيّرات الدولية من نقطة ميتة، ومع عولمة العلاقات الدولية بصفتها مشروعاً لإعادة إنتاج ساذجة للتفرد والهيمنة، ومع الاقتصاد العالمي باعتباره ميداناً للنهب والاستحواذ والسطو العلني والمباشر، دون أن يفقه شيئاً في مبادئ الاقتصاد السياسي -الدولي – الذي يعيد اليوم بناء علاقات وأدوات القوة انطلاقاً من الاعتراف الإجباري بقوة التعاون والشراكة.
ترامب يمتطي ثوراً هائجاً.. ويبقى التحدي الأخطر الذي يواجهه تلك العلاقة مع جنرالات عجائز عائدين على صهوة الشعور بالقهر والرغبة بالانتقام.. يفضلون زرع الفوضى وتدفيع رئيس عديم الخبرة، وصل إلى البيت الأبيض بفضل شعبوية فاقعة ومتفلّتة، ضريبة ضعفه على الاعتراف الشجاع بانكفاء القوة العظمى.