علي قاسم : الثورة
لم يعد الفضاء العربي ومعه الإقليمي محكوماً بما أنتجته الغرف السرية فحسب، ولا مؤطراً فقط بما كان يمرر من تحت الطاولة كما اصطلح على الاتفاقات السرية في حينه، والتي أنتجت تلك الإحداثيات السياسية وما يتراكم عليها اليوم، بل يشهد ما يتم فوق الطاولة،
ويقف الوضع العربي باعتباره شاهداً عينياً وحسياً عليها عاجزاً عن التعبير أو الرفض أو إبداء الشكوك والهواجس حوله، والأدهى أنه يُراد له أن يكون صامتاً، وما يحق لغيره محرم عليه، وما يجوز للحفنة الوظيفية بعلنيتها محظور على الآخرين حتى في السر.
فالتحشيد لزيارة الرئيس ترامب يتم علناً، ومذكرات الجلب لقادة وملوك لم تعد سراً كما يتم تداوله، أو ما بات دارجاً في تسميته على طريقة الدعوة السعودية لحضور القمة المزمع عقدها مع الرئيس ترامب في الرياض، والأخطر أن الجميع على علم ودراية بجدول أعمالها والبنود المدرجة والأجندات القادمة، وحتى ما يترتب عليها رغم التباين في النظرة إلى الدور الوظيفي المنوط بكل طرف.
الحرب معلنة.. وخرائط وإحداثيات المجابهة وحتى أدواتها تم تفصيلها لتكون على مقاس المدير التنفيذي الجديد، ومبدأ من ليس معنا فهو ضدنا هو السائد حتى إشعار آخر، فهوية من يريدون أن يكون معهم باتت صريحة واضحة وبالتفصيل، فيما من ليس معهم تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتبلور، والمنطقة الرمادية أو الكتلة الصامتة التي تتأرجح بين هذا وذاك تتضاءل أو تضمحل، حيث ليس بالضرورة كل من لم يدعَ إلى الاجتماع لا يريد أن يكون معهم، ولا كل من دعي هو بالضرورة ليس ضدهم..!!
الفرز القسري على الصيغة السعودية الأميركية يأخذ الفضاء العربي ومعه الإسلامي إلى تخندق إضافي، قد يكون الأكثر كارثية في التاريخ الحديث، ويدفع بالضرورة إلى اصطفاف حتمي يقابله، بحيث يضع محددات للمواجهة على أسس لا تكتفي بالطائفية.. ولا تقتصر على عوامل الصراع التقليدية، بل تحوّر هوية الصراع إلى عوامل بينية مغرقة في فتنتها إلى الدرجة التي باتت فيها المنطقة تتحضر لحروب الأعوام المئة وما فوق، حيث إن حروب السنوات التي أشعلها الصقيع العربي بمشاهده المتورمة لم تحقق الهدف، فكان لا بدّ من التحضير إلى حروب تتعدل فيها الهوية، وتتغير معادلة العدو والصديق تبعاً للقرار الأميركي وبما يتسق مع الرغبة الإسرائيلية، لتكون شريكاً على الطاولة ومن دون الحاجة إلى الغرف المغلقة.
من حروب الخرائط التي تشابكت فيها خطوط الطول والعرض وتصادمت بحكم تصارع المصالح والأطماع وإفلاس السياسات والمشاريع والمخططات، إلى حروب الفتنة المتحركة التي يوقظها رعاة الدمار والخراب في المنطقة وأتباع المهام الوظيفية ككيانات تعبّر عن المأزق السياسي للغرب، ليكون المنتَج متشابهاً أو متطابقاً في سياق المحاصصة على صفقات تجاوزت صفة القرن، لتكون أكبر الصفقات التي يشهدها التاريخ، والقادم سيكون أعظم وأكبر وأضخم.
من العسير أن نفهم الهواجس الملفقة من دون الأخذ بسياق التجربة في مفازات مشابهة أو تتشابه ببعض فصولها، حيث الفوارق لم تعد في علنية الحروب التي تتحضر، ولا في مجاهرة أصحابها، وإنما في سياق البحث عن نقاط اشتعال توغل في تأجيج الوضع ريثما تمر الصفقات وتتساوى فيها الاتجاهات وتضيع بوصلة الوجهة العربية.
على هذا النحو يصبح الفضاء العربي وبالضرورة الإقليمي أمام تحديات الاصطفاف السياسي والعسكري والوجودي، لأن المعركة ليست في صراع على الحدود المتآكلة أو المتبدلة أو تلك التي يُراد أن تشكلها أطماع ومساحات العمل الإرهابي لتكون التنظيمات الإرهابية جزءاً من إحداثياتها، بل في تشكيلات قتالية تستنزف الأمة وطاقاتها، وتأخذ المشهد إلى الهاوية بعد سنوات من الاصطفاف على حافتها، ما يدفع إلى الجزم بأن الكل معني فيها، سواء كان في خرائط الحروب المعلنة أم كان مضمراً ومن دون إعلان أو مؤجلاً لسواها.
المجابهة يدشنها التحشيد السعودي أمام الرئيس الأميركي، والمواجهة تفتح جبهاتها في ظل حديث ملح عن ضرورة البحث في البقايا المحصنة، أو نتف العمل العربي المتروكة جانباً بالاتكاء على ما راكمته التجربة في سورية من تحالفاتها الإقليمية والدولية، واستنهاض ما يمكن وتجديد ما يصلح منها، وقد تكون النماذج القائمة لا ترقى إلى الطموح، لكنها وبالتجربة كانت وستبقى خياراً قائماً بأدوات جديدة يفرضها إيقاع المواجهة، ويضبط حوافها وتشكيلاتها المختلفة رتم الصراع القائم على غرائز التبعية والأدوار الوظيفية، حيث الرجعية العربية في شعارات الماضي القريب والاستعمار والصهيونية تتخندق وفق إيقاع إرثها المعهود، وتتشظى على جوانبها ما يؤشر إلى مواجهة مصيرية قسرية وحتمية لن تنحصر في المنطقة، بل سيكون لها مرتسماتها العالمية، وهي لا تقبل القسمة على اثنين، ولا تحتمل تتمة هزيمة أو نصف انتصار.