«المصادفة» على مقاس كي مون

بقلم: على قاسم

 

رغم أن الكثير مما قاله بان كي مون في الماضي وما صرّح به وما تضمنته بياناته العديدة، لا يستحق التوقف عنده، لكن المصادفة تدفع إلى التمعن فيه، وتعيده إلى الواجهة عند الحديث عمّن يصعِّد، وأهدافه من هذا التصعيد،

وذلك اقتراناً بما حدث من إرهاب مُدان في بيروت، وما يجري من تصعيد إرهابي في سورية على قاعدة تكاد لا تختلف حتى لو تباينت الأهداف أو بدت متناقضة.‏

فعادة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن يطلّ كي يثير زوبعة من المتناقضات التي تفضي جميعها إلى الأسف بأن يكون أمين المنظمة الدولية على هذا الحال من التواضع في القراءة السياسية المترفة في خلفياتها.. المحكومة بإملاءات مشهد السطوة التي مارستها أميركا خلال العقود الماضية في المناخ العالمي، وكان بان كي مون الأكثر تجسيداً لحضورها في سلوكه عن جميع من سبقه.‏

وجاءت التطورات مصادفة أو معايرة لحديثه، وربما على مقاسه، كي ترسم ظلالاً من التساؤلات المريرة عمّا وصل إليه الخطاب الأممي في مناخ يشهد أخطر التحولات في تاريخ البشرية، ويستدعي رجالاً وسياسيين على مستوى التحدي القائم أمام العالم كله، فالمزاوجة بين الإرهاب ووظائفه لا تزال سارية المفعول لدى صانع القرار الغربي، ويمكن الاتكاء عليها في عمليات نوعية لقلب الطاولة كما يتوهمون، ومثالها العمل الإرهابي في بيروت تزامناً مع التطورات السياسية في المنطقة والعالم، حيث أصابع الأميركي والإسرائيلي تتشابك من جديد، حتى لو تغير العنوان.‏

لسنا بوارد إحصاء المواقف التي أطلقها منذ بداية الأحداث في سورية، ولا عدد التصريحات المرتجلة والمتسرعة التي أقدم عليها، ولا تلك التي كانت تُبنى على ما يأتيه بالبريد العاجل، ولا تلك التي كان فيها مجرد صدى للمواقف الغربية، أو تكرار للأكاذيب والفبركات التي صاغتها وتصوغها حتى الآن أجهزة الاستخبارات الغربية ومرتزقتها في المنطقة.‏

لكن لنا عليه كما لكل العالم -ولسنا هنا نطلب امتيازاً- أن يأخذ بما بين يديه من تقارير محفوظة لدى أمانته، ولنا عليه أيضاً أن يجري المقارنة وأن يكون على قدر ما تتطلبه مهمته من حيادية في قراءة المشهد، ولا نعتقد أنه بحاجة إلى التذكير بعدد الرسائل السورية المودعة والموثقة، ولا في التوضيحات المتتالية على كل ما صدر عنه أو عن غيره من المسؤولين الأمميين، ولا لفت الانتباه إلى التجاهل المتعمّد لها في كثير من الأحيان.‏

لا نريد أن نتجاهل ما تحدث به عن سعي من يصعِّد إلى جلب التدخل العسكري، وأنه يتطابق مع الحقيقة، ولا أن ننكر دوراً مهماً يمكن له أن يؤديه، إلا أننا في الوقت ذاته نجد فيه نافذة تسجل النقاط على الأمم المتحدة والأمين العام شخصياً، باعتبار أن المداورة في المسألة لا تفيد في شيء، ولا تقدم ما يكفي من مقاربات ضرورية لكي تبني عليها المنظمة الدولية لاحقاً، ويبني المجتمع الدولي أيضاً، خصوصاً حين تبدو حمّالة أوجه، وقابلة للتأويل والتفسير الملتبس.‏

وكان بمقدور الأمين العام أن يقول الأشياء كما هي، وأن يحدّد مَن هو الطرف الذي يصعِّد، ولمصلحة مَن يجري ذلك التصعيد، وكيف له أن يقرأ هذا الإرهاب المتنقّل والتوقيت الذي يختاره والمكان أيضاً، وبالمقابل لا بد أن نطرح: هل يرى أيضاً -كما سيده الأميركي-أن ملاحقة الإرهابيين تصعيد، والمواجهة مع التنظيمات الإرهابية تدخل في مفهوم التصعيد الذي تداوله؟! أم أنه أراد مقاربة لم يتمكن من استكمالها، وليس له طاقة على ذلك، ولديه متسع من النفاق فرشه أمامه الأميركي على مدّ الذاكرة.‏

من الواضح أن الأمين العام ظلّ محكوماً بتطابق مواقفه مع ما يطلبه الأميركي، ولم يتجرّأ يوماً على الخروج عن السقف المسموح له أميركياً، وهذا ليس اتهاماً، بل توصيف واقع لا نعتقد أنه سيضيف الكثير إلى معلومات المسؤول الأممي، وهو أدرى بها، وبالتالي فإننا في نهاية المطاف لا نغلّب التمنيّات على الوقائع والمعطيات، ولا نستجر أوهاماً من خارج سياقها، والقضية ببساطة أنها محاولة تجريد الموقف من التباساته المتعددة والمتراكمة على مدى الأشهر والسنوات الماضية.‏

بالطبع لا ننتظر تصويباً ولا توضيحاً، وقد اعتدنا على حالة الالتباس والتخفي خلف الأصابع خشية الانزلاق في الخروج عن أدبيات الخنوع للأميركي، غير أننا في الوقت ذاته لا نقبل بعد طول مماطلة أن يخرج علينا بما يضيف المزيد من الالتباس، وبما يساهم في ضخ المزيد من الأحجيات إلى الموقف الأممي، ويراكم الطلاسم على ما هو متراكم بالأصل، وتحفل المنظمة ومواقف مسؤوليها بما يفيض عن الحاجة من ذلك التراكم، فيما يصمت عن إرهاب أعمى استطال شره.‏

وعليه.. ربما كان التزام الأمين العام للأمم المتحدة بما يقتضيه العرف البروتوكولي، أسلم له وللمنظمة.. حفاظاً على ما بقي من أطلال وجودها السياسي، وهو أنجع بكثير من تقليد الأميركي في تعرجاته وفي ممارسة سياسة الالتواء، فما يجيده الأميركي يخرج أكثر سماجة حين يأتي من غيره، وما استباحه في مماحكاته لا يقدر غيره على مجاراته فيها، وتحديداً حين يكون من قياس بان كي مون.‏

اخبار الاتحاد