بقلم: د. صابر فلحوط
إن الإنجازات العظيمة، والمفصلية، في تاريخ الشعوب كانت في البدء أحلاماً في مخيلة مبدعيها، ومهندسيها، ثم تحول الحلم إلى علم وعمل، وحقائق ساطعة الوضوح، بعد جهود جبارة مكافئة لأهميتها.
ويشغل الحديث عن مؤتمر جنيف هذه الأيام العالم، والسوريين بخاصة، باعتباره المنطلق لمواجهة الأزمة السورية، وتلمّس الحلول الناجعة لها، بعد أن طال أمدها، وطفح كيلها، دماً ودماراً، وكوارث غير مسبوقة في تاريخ العالم.
لعله من حقّنا وواجبنا أن نتصور إذا ما عُقِد جنيف-2 و(إذا) هذه، كما يؤكد فقهاء النحو حرف شرط غير جازم، ما هو جدول أعمال المؤتمر، ومن هم فرسان ميدانه، وبأي محلول يغسل الإرهابيون والتكفيريون والوهابيون القتلة أيديهم قبل مصافحة شركائهم في حوارات المؤتمر؟! وكيف سيتعالى الوفد الوطني السوري على جراحاته وآلامه، ويكون كبيراً وشجاعاً في المواجهة بالسياسة، كما هو جيشه عظيم في السلاح؟!.
وهل سيكون الحوار بين السوريين، ممثلي الوطن، المدافعين عن ترابه وتراثه وتاريخه، وبين الذين تآمروا عليه، وحشدوا لتدميره كل شياطين الإرهاب من أكثر من ثمانين دولة طوال الأعوام الدامية من عمر الأزمة؟!.
أعتقد في البداية، سيكون الدور الأكبر في تحديد الأولويات للراعيين- الروسي والأمريكي- وحسب جدول أعمال المؤتمر على النحو التالي:
1- الوقف الفوري، وغير المشروط، لإطلاق النار، وعلى جميع المحاور، والجبهات والجهات.. ولا شك أن لهذا العنوان الأكبر والأهم محددات يجب أن تكون غاية في الوضوح؛ فهناك طرف هو جيش الوطن، وقيادته، من جهة، وطرف آخر متعدد الأعراق، والانتماء، والمشارب الروحية، والسياسية، والإرهابية.
وحتى يتوقف هذا الطرف الغازي عن القتال لابد من حوار صعب ومسؤول بين راعيي المؤتمر ومشغّلي الإرهابيين، وداعيمهم بالمال والسلاح، وكل وسائل الموت والدمار، ويأتي هنا دور -الراعي الأمريكي- في الضغط، بل الأمر لأبرز أطراف العدوان على سورية (السعودية وقطر وتركيا ولبنان والأردن) وكلّ في مستوى ما قدم من وقود للنار في المجمرة السورية؛ وذلك من أجل إيقاف حنفيات المال والسلاح، وإقفال الحدود في وجه الوباء الإرهابي القادم من أربع جهات هذا الكوكب، فإن تحقق ذلك تبدأ الخطوة الأولى في طريق الألف ميل لحلّ الأزمة السورية.
وهنا حتى يتحول الكلام في جنيف-2 إلى فعل على الأرض، لابد من رقابة أممية، بالتنسيق مع الحكومة السورية، وضمن محددات معينة لإيقاف نزيف الدم، والمباشرة بالخطوات اللاحقة في جدول أعمال المؤتمر.
2- هناك جدلية تفرض نفسها بعد إيقاف العنف (وهو التعبير المخففلمسلسل الموت والدمار في سورية) حول أيّهما يستحق الأولوية، وهل هو عودة النازحين والمخطوفين إلى بيوتهم، أم إعمار البيوت المهدمة قبل عودة أهلها إليها؟.. لهذا يكون من المنطقي والطبيعي تشكيل صندوق مالي أممي للإعمار في سورية قبل عودة النازحين، مع الضرورة القصوى لدعم النازحين بمستلزمات العيش الكريم، وتلبية جميع حاجاتهم الحياتية، وذلك عبر مآوٍ مؤقتة تحضّر على عجل في سورية ريثما تصل عملية الإعمار إلى خواتيمها، والتي لابد أن تأخذ وقتاً غير قصير..
ولإنجاز مهمة الإعمار في سورية لابد أن تتحمل المسؤولية فيها الدول التي خطّطت، وموّلت، وسلّحت، وفتحت حدودها، ومخازنها، وآبار نفطها لخدمة الإرهابيين القادمين لتدمير سورية.. وهنا يتوجه ضغط راعيي المؤتمر والأمم المتحدة على السعودية وقطر، ودول الخليج، التي أسهمت في الولوغ بالدم السوري لدفع كفّارة عما اقترفوه بحق السوريين لصندوق الإعمار -العتيد-.
ومن البديهي أن يشكل المؤتمر لجنة مهنية مختصة تقوم بالتنسيق مع الحكومة السورية بتقييم الأضرار والخسائر التي لحقت بالبلد جرّاء هذا العدوان الأبشع والأفظع في التايخ المعاصر، وبديهي ايضاً أن القائمة في حقل تحديد الضحايا والخسائر تطول، ويأتي في مطلعها الشهداء والجرحى، وأسرهم والمخطوفون، وما أصابهم من إعاقات بدنية ونفسية، ومؤسسات الدولة ودور العبادة والمشافي والمدارس والمصانع التي فُكِّكت ونُقِلت إلى تركيا، والآثار التي نُهبت، والكوارث الصحية التي جلبتها الحرب معها كمرض شلل الأطفال الذي لم تعرفه سورية طوال تاريخها.
3-أتصور أنه بعد يومين أو ثلاثة أيام في رحاب جنيف سيتحول السوريون لاستكمال حوارهم تحت سماء دمشق، برعاية دولية، يتحدد خلاله الاتفاق على لجنة كفء لوضع دستور جديد، يشكل حلّاً مرحلياً، وبوصلة هداية، يُعرض على الاستفتاء الشعبي العام، وتحدد فيه الخطوات اللاحقة والواجبة التنفيذ، ويكون المنطلق والأساس لعقدٍ اجتماعي سوري، يأخذ في الاعتبار تطلعات الشعب العربي في سورية، وطموحاته العروبية والإنسانية والحضارية، وهويته الوطنية، وانتماءه القومي الراسخ، والتزامه المقاومة وقضايا الأمة العربية.
4- وانطلاقاً من الدستور الجديد، الذي سيُجاز بالاستفتاء الشعبي العام، وبالرقابة الأممية، تجري بعدها الانتخابات البرلمانية والرئاسية برعاية وإشراف مناسبين؛ حيث تنطلق بعدها مسيرة سورية المتجددة بإرادة أبنائها لإعمار ما هدمت الحرب الفتنوية الإرهابية التكفيرية في النفوس، كما في الفكر، والحجر، ومختلف مفاصل الحياة.
يقيني أن الجماهير المتفائلة في الساحة السورية، والتي ترى في كل ألم جديد أملاً جديداً، تزداد عزماً وحزماً وإصراراً على مواصلة الصمود والتضحيات التي لابد أن تكون حصيلتها استقراراً سياسياً، وسلماً مجتمعياً، عنوانه التآخي التاريخي، والمتجدد على الدوام بين أطياف الشعب السوري جميعاً؛ لبناء الوطن الديمقراطي التعددي، سياسياً، وحزبياً، واقتصادياً، في مناخ من الحرية، الذي يشكل الأنموذج، والعنوان، والقدوة في الوطن العربي.
وسواء صدقت النوايا، وصحّت العزائم، وأورق ترياق الحل فوق -ثلوج جنيف أم لا- فإن الأساس في حل الأزمة السورية، قبل جنيف وخلاله، وبعده، إنما يبقى مرهوناً بتلاحم أبناء شعبنا، بمختلف مكوناته، وأطيافه، مع جيشنا الشجاع، وقيادتنا الحكيمة، وشعبنا الصبور، والجسور، والصخرة الأصلب في وطن الشهادة والشهداء.