علي قاسم:الثورة
يدشن الرئيس الأميركي موسم نفور حلفائه قبل خصومه في نزاله الأول على الحلبة الدولية وبساطها المنزلق بقراره الانسحاب من معاهدة المناخ، أو باريس كما اصطلح على تسميتها، فيما لم تكن ردود الفعل مفاجئة بقدر ما بدت الدول والأطراف التي أطلقتها هي ذاتها المتفاجئة بالقرار الأميركي وتوقيته ومضمونه،
حيث عكست تلك الردود إلى حد بعيد تبايناً في الاحتمالات وحتى الإجراءات والتداعيات، وإن جاءت في بعض منها مندهشة أو غير مصدقة لما يجري.
الفارق الحقيقي أن ما كان يتم التحذير منه بات أمراً واقعاً، وأن الإدارة الأميركية الحالية وتهديداتها، التي أثارت زوابع سياسية في مواقفها الانتخابية وأشهرها الأولى في البيت الأبيض، تثير بهذه الخطوة أعاصير، لن تقتصر على الردود المختلفة، بقدر ما تؤسس لمواجهة عالمية تضع الدور الأميركي في النظام العالمي القائم على المحك، فيما ستكون القوى الناشئة والتقليدية أمام اصطفاف سياسي يقلب المعادلة السياسية، ويعيد ترتيب التحالفات والأحلاف على أسس جديدة، وتضعها أمام تحديات تختلف فيها المقاربات وتتبدل المعايير والأسس المعتمدة.
قد يكون من السابق لأوانه البت بتلك التداعيات بحكم أن ما ظهر حتى اللحظة ليس أكثر من رأس جبل الجليد، الذي يخفي تحته زوابع وأعاصير وعواصف إضافية، تتقاطع جميعها أمام معضلة العلاقة التي ستحكم المشهد الدولي، وما يليه من شواهد على المواجهة القادمة التي لن يكون فقط المناخ عنصر الخلاف والتجاذب، بل ستمتد لتشمل قضايا أخرى أكثر تعقيداً وأكثر مدعاة للجزم بأن العلاقات الدولية تنزلق نحو صفيح ساخن لا يلغي من خياراته أي احتمال، بما فيها الجبهات المؤجلة مع تبدل في قواعدها وأطرافها، وحتى في تموضعها الجغرافي والاستراتيجي.
فإذا كانت الردود المعترضة قد جاءت من الداخل الأميركي بنفس المستوى الذي جاءت به خارجياً، بل إن بعضها تفوّق في حدته واعتراضه، فإن أميركا الباحثة عن شكل مختلف من القيادة ودور أيضاً لا يتسق مع سابقه على المستوى العالمي، وصولاً إلى محاولة الانفراد بنموذج المجابهة، تواجه جملة من المتاعب الذاتية بشقها الداخلي، الذي تشي بعض المؤشرات بأنه في مرحلة من التورم التي تهدد بانفجار لا يكتفي بالرد على خيارات الرئيس ترامب فحسب، بل على التحديات الناتجة عن إجراءات داخلية تنتظره، بما فيها تلك التي تتحدث عن إجراءات تشريعية تطول بقاءه في البيت الأبيض.
وريثما تتبلور المعطيات بصورة أكثر وضوحاً سيشهد العالم موجات مد وجذر عاصفة على شكل تداعيات أقرب إلى الحروب الاستباقية، التي كانت أميركا تعتمدها في سياستها، وبالتالي ثمة ما يؤشر إلى أنها ستكون الجبهة القادمة لتجريب تلك الحروب داخلياً وخارجياً، وهو ما يدفع إلى الجزم بأن إدارة الرئيس ترامب ليست في موضع يتيح لها الكثير من الخيارات، بل ستجد نفسها في موقع المدافع على طول الخط، وهذا ما يرفع من منسوب المواجهة الأميركية كردة فعل لا تكتفي بصد ما يواجهها من انتقادات وموجات هجوم متصاعدة، بل قد تبادر إلى افتعال مواجهات واصطناع حروب ولو كانت افتراضية، سواء جاءت بينية مع قوى الداخل الأميركي أم خارجية مع القوى الصاعدة أو التقليدية.
الأخطر يبقى ذلك السياق الذي تنتجه الرعونة الأميركية في بحثها عن دورها الجديد وسط نظام عالمي مترهل.. متآكل من داخله، ومهدد من خارجه، حيث المسألة لا ترتبط فقط بتخليها عن مسؤوليتها السياسية والقانونية، بل أيضاً وهي تعيد الاجترار في المقولات الصادمة التي تعبر خلالها عن فائض القوة والتوحش في استخدامها والتلويح بعوارضها المدمرة، وإن كانت معظمها ذات طابع مرضي انتقلت عدواه لتصيب الاستطالات المرضية الملحقة بالنموذج الأميركي.
الانسحاب الأميركي من معاهدة المناخ أو عاصفة الهروب والسجال الدولي المرافق، ليس فعلاً فردياً أو موقفاً صادماً للكثير من الدول والشعوب، وإنما يمثل تدحرجاً طبيعياً لكثير من المقاربات الأميركية الغارقة في أطماعها القائمة على السطوة والهيمنة، والتي تحكم العقل الأميركي حين يخضع لنظام المبازرة والمتاجرة، وتحاول أن تدير خلاله العالم بنظام الشركة، وأن تكون الدول والشعوب مجرد وكلاء إقليميين، وهو ما ينطبق على الحلفاء كما الخصوم ويسري عليهم قانون الربح والخسارة، ويشترط تلقائياً الخضوع الكامل لمزاجية الدور الأميركي حتى لو كان ينازع في رمقه الأخير.