أبو الفضل صالحي نيا:
حزيران هذه السنة، ولأول مرة، يجمع في طياته ثلاثة ذكريات تهم الشعبين السوري والإيراني، وهي ذكرى رحيل الإمام الخميني وذكرى رحيل القائد الخالد حافظ الأسد وذكرى يوم القدس العالمي الذي أعلنه الإمام الخميني لتذكير المسلمين مسؤوليتهم تجاه فلسطين ولإخراج القضية الفلسطينية من كونها صراعاً بين الفلسطينيين والصهاينة إلى كونها قضية حق إنساني تهم البشرية.
من هذا المنطلق نلقي نظرة على العلاقات الاستراتيجية بين إيران وسورية حيث أن لكل من العوامل الثلاثة أعلاه دور أساسي في تشكيل الحلف الاستراتيجي بين البلدين، إذ ليس خافياً على أحد متانة وعمق العلاقات بين البلدين، وما يجري حالياً على الأرض لهو خير دليل على ذلك، فهذه العلاقات وصلت مرحلة متطورة لايمكن إدراجها في حسابات المصالح الاقتصادية أو السياسية الآنية، بل هي بلا شك تقوم على أسس متينة ووحدة الرؤية والنظرة المشتركة إلى قضايا الأمة ومتغيرات المنطقة وإلا ماكانت لتستمر في ظل ضغوطات كبيرة وكثيرة مورست على سورية من جهات عربية وغربية عدة لإعادة النظر في علاقاتها مع إيران، ولمعرفة هذا الأمر لابد أن نعود إلى الوراء، إلى فترة انتصار الثورة الإسلامية وماجاءت به من تغييرات أثرت على المنطقة من تبدل في موازين القوى وإسقاط التحالفات القائمة آنذاك والثورة الإسلامية تُعرف بأنها أعظم حدث سياسي عالمي في النصف الثاني من القرن الماضي، وقد تجاوزت تداعياتها وآثارها الحدود الجغرافية لإيران وتركت بصمتها على صعيد المنطقة والعالم بل أنها غيرت الخريطة الجيوبوليتيكية للمنطقة.
الثورة الإسلامية أبادت نظام الشاه الذي كان أقوى أدوات تنفيذ سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وأسست نظاماً جديداً اعتبر معارضة السياسة الاستعمارية والتوسعية والاستكبارية للولايات المتحدة الأمريكية من أولوياته وأساسياته. ثم هناك جانب مهم آخر في توقيت انتصار الثورة الإسلامية، حيث جاءت مع إنجاز اتفاقية كامب ديفيد، التي أصابت الدول العربية بنوبة قوية وأضعفت الأمل في مستقبل المواجهة مع العدو الصهيوني. وفي هكذا أجواء وفي منعطف تاريخي هام للمنطقة حيث كان قد ظهرت فيه بوادر تأسيس اتحاد استراتيجي بين الكيان الصهيوني ومصر وإيران لمواجهة دول الطوق، فجأة، خرجت إيران من المعادلة وحدث ماليس بالحسبان، فانضمت إلى جبهة المقاومة ضد الصهاينة وإلى تبني تحرير فلسطين وإزالة الكيان الصهيوني كسياسة استراتيجية ثابتة لإيران، وأقيمت في طهران أول سفارة لفلسطين في العالم وذلك على أنقاض السفارة الإسرائيلية التي فرّ منها جميع أعضائها. هذا التغيير في السياسة الإيرانية شكل البنيان والأساس لإقامة العلاقات الاستراتيجية بين سورية وإيران فانعكس جلياً في موقف الرئيس الراحل حافظ الأسد من الثورة الإسلامية حين قال:
“في إيران كان يقوم حكم دكتاتوري امبراطوري معاد للأمة العربية متعاون مع إسرائيل، شكّل قاعدة عسكرية وسياسية عملاقة في هذه المنطقة الاستراتيجية تعمل بجد ونشاط من أجل تنفيذ مخططات الامبريالية العالمية، حكم دكتاتوري امبراطوري له أطماع توسعية، مما جعله يشكل خطراً دائماً مستمراً متزايداً على الأمة العربية وعلى الوطن العربي. هكذا كان الوضع في إيران وجاءت ثورة شعبية تحت شعار الإسلام في إيران. جاءت هذه الثورة لتقلب الأمور رأساً على عقب.. فتطيح بالشاه وتلغي الارتباطات الأجنبية الامبريالية وتلغي القواعد العسكرية الأجنبية… وتقطع كل علاقة لها مع إسرائيل وتقطع كل علاقات إيران السابقة مع إسرائيل.. و.. تعلن تبنيها الكامل لقضية القدس وفلسطين والأراضي العربية المحتلة وترفع شعار التحرير الكامل للقدس وفلسطين والأراضي المحتلة وتبعث انعكاسات كبيرة إيجابية على مجمل حركة النضال إقليمياً وعالمياً وتدخل تعديلات هامة على التوازن الاستراتيجي بكل ماتعنيه كلمة استراتيجي… هكذا كان الوضع في إيران وهكذا أصبح الوضع في إيران.. فهل يعقل بعد هذا ألا نفرح بانتصار هذه الثورة؟ وهل يعقل بعد هذا ألا نحرص على استمرار هذه الثورة؟ في ضوء هذا الفهم اعتبرت الجماهير العربية انتصار الثورة الشعبية في إيران انتصاراً لها”.
يبدو جلياً أن القضية الفلسطينية شكلت المحور الأساس في تأسيس العلاقات الاستراتيجية بين البلدين. والدارس لتاريخ إيران المعاصر يجد أن قضية فلسطين كانت حاضرة على الدوام في الساحة الإيرانية حيث الشعب والقيادة الدينية قبل الثورة كانا يرفضان الموقف الرسمي لنظام حكم الشاه. هذا ماكان يؤكده الإمام الخميني في أكثر من مناسبة حيث قال في إحدى خطبه:
«من أسباب ثورة شعب إيران المسلم، دعم الشاه اللامحدود لإسرائيل الغاصبة، إذ كان يعطي النفط لإسرائيل ومن ثم جعل إيران سوقاً لتصريف المنتجات الإسرائيلية، ويقدم لها الدعم المعنوي.. ولكن في نفس الوقت وبهدف خداع الرأي العام العالمي كان يدين إسرائيل».
وفي موقف آخر. وفي نفس الاتجاه، أعلن سماحته:«من أسباب معارضتنا للشاه، دعمه لإسرائيل. لقد قلت دائماً أن الشاه قد تعاون مع إسرائيل من أول يوم وجد فيه هذا الكيان، حينما وقعت الحرب بين إسرائيل والدول المسلمة، كان يغتصب نفط المسلمين ويقدمه لإسرائيل وهذا هو أهم سبب من أسباب معارضتي للشاه».
وأكثر من ذلك، فقد أفتى سماحته وفي جوابه على سؤال ممثل الفتح في تشرين الأول عام 1968 بجواز تخصيص الأموال الشرعية للمجاهدين الفلسطينيين، أكد قائلاً:«يحبذ أكيداً بل واجب شرعي تخصيص قسم من الوجوهات الشرعية كزكاة وغيرها من الصدقات بما يكفي للمجاهدين في سبيل الله، للمجاهدين الذين يقاتلون ويبذلون دماءهم لأجل الصهاينة الكفار…».
بعد انتصار الثورة الإسلامية وبهدف توحيد صفوف المسلمين وتثبيت دعمهم للقضية الفلسطينية، أعلن الإمام الخميني يوم القدس العالمي وهو يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان. جاء في بيانه الصادر بمناسبة إعلان هذا اليوم في 7/8/1979:
«لقد نبهت المسلمين خلال سنوات عديدة، خطر إسرائيل الغاصبة… أطلب من عامة مسلمي العالم والدول الإسلامية أن يتعاضدوا لأجل قطع يد هذا الغاصب وداعميه. ادعوا مسلمي العالم إلى اختيار يوم الجمعة الأخير لشهر رمضان المبارك الذي يعتبر من أيام القدر ويمكن أن يلعب دوراً في مصير الشعب الفلسطيني.. أدعوهم إلى اختياره يوماً للقدس ويعلنوا تعاضد المسلمين الدولي في حماية الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني المسلم».
من الطبيعي أن يرى الرئيس الأسد في الإمام الخميني، ومن خلال مواقفه التاريخية تجاه القضية الفلسطينية طوال سنوات عديدة ممتدة من قبل الثورة الإسلامية إلى انتصار الثورة، وتسلّمه مقاليد الحكم في إيران، من الطبيعي أن يرى في الإمام الخميني حليفاً صادقاً ومسانداً ثابت القدم، رأى فيه، قبل انتصار الثورة بسنوات طويلة، عالماً دينياً ومعارضاً سياسياً لا شائبة سياسية أو مصلحية على مواقفه بل اتخذ مواقف صريحة ومساندة للقضية الفلسطينية بل دفع بسببها ثمناً غالياً.
تقاطعت الأهداف والرؤى بين معارضة الإمام الخميني للصهاينة منذ تأسيس الكيان الصهيوني مع الفكر المقاوم للرئيس حافظ الأسد الذي كان له أيضاً موقف مبدئي من القضية الفلسطينية في فكره، حيث صرح أن «الصهيونية شر للبشرية كلها» وتعتبر أكبر خطر للأمة العربية. فقد قال في هذا الشأن:«الأساس العنصري للصهيونية وتطلعها التوسعي وتمركزها فوق الأرض العربية… كل هذا يجعل الصهيونية أكبر خطر تواجهه الأمة العربية».
هذا الكيان التوسعي وجه آخر للفاشية «فإسرائيل تؤكد كل يوم وفي كل وقت أنها كيان عدواني توسعي وأنها تسير على خط معاد لتيار التاريخ وهي حريصة دائماً أن تمثل القاعدة الفكرية والعقائدية للفاشية».
هذا الموقف يتطابق مع موقف الإمام الخميني من الصهيونية والكيان الصهيوني حيث يرى سماحته «هدف الدول العظمى من تأسيس الكيان الصهيوني لن يتحقق باحتلال فلسطين بل يخططون لأن يصيبوا كافة الدول العربية بنفس المصير».
بعد حرب رمضان 1973، أصدر الإمام الخميني بياناً نبه إلى خطر الكيان الصهيوني جاء فيه:
«يجب أن يتنبه قادة الدول الإسلامية أن الهدف من زرع هذه الجرثومة الفاسدة في وسط الدول الإسلامية ليس قمع الأمة العربية فقط بل إن خطرها وضررها يشمل منطقة الشرق الأوسط كاملة».
كان الإمام الخميني على يقين «إن إسرائيل غدة سرطانية لن تكتفي بالجولان بل تريد المنطقة الواقعة بين النيل والفرات، وأن الصهاينة فرقة عنصرية تعتبر نفسها فوق بقية البشر».
لقد أكد سماحته على هذا في بيان أصدره في 5/6/1983 جاء فيه:
«لقد أعلنت تكراراً أن إسرائيل لن تتقيد بهذه الاتفاقيات وتنظر إلى الأراضي مابين النيل والفرات على أنها مغتصبة بيد العرب وآجلاً أم عاجلاً إن لم يفق العرب من النوم ستحقق لاسمح الله مخططاتها التوسعية بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية» أيضاً هنا تتطابق ورؤية الرئيس الراحل حافظ الأسد، إذ قال: «إن الأطماع الصهيونية واضحة كالشمس فالأمر واضح في كتب الصهاينة وتعاليمهم. إنهم لايريدون قطراً عربياً دون آخر فقط بل يريدون الأرض من النيل إلى الفرات».
وجه مشترك آخر في رؤيةالقائدين التاريخيين تتعلق بدور الولايات المتحدة الأمريكية في منطقتنا خاصة تجاه القضية الفلسطينية.
فالرئيس الأسد يرى أنه «لولا الدعم الأمريكي المستمر والمتنوع والمتصاعد سياسياً وعكسرياً واقتصادياً لما كان بإمكان إسرائيل أن تعتدي وتتوسع وتحتل أراضي الدول الربية المجاورة».
«ثم أن الولايات المتحدة تقدم لإسرائيل كل الدعم السياسي حتى أنه يمكن القول أنها عطلت مجلس الأمن الدولي وشلت فاعليته من أجل إسرائيل».
وفي نفس الاتجاه كان الإمام الخميني يؤكد «هذه هي الولايات المتحدة الأمريكية التي تساند إسرائيل وتقويها بحيث تطرد الشعب العربي المسلم». وكان متيقناً من أن «كل مصائبنا من أمريكا، كل مصائب المسلمين من أمريكا التي تدعم الصهاينة بحيث يقتلون إخوتنا جماعياً».
ومن هذا المنطلق ليس عجباً أن تسمع الرئيس الراحل يقول: «نحن نعتبر الثورة الإسلامية في إيران نصراً كبيراً لنا نحن العرب ولبلدان العالم الثالث عموماً.. الثورة الإسلامية في إيران تقف معنا بقوة ضد العدوان الإسرائيلي ومن أجل تحرير تحرير أراضينا التي تحتلها إسرائيل واستعادة حقوق الشعب العربي الفلسطيني».
هذه الرؤى المشتركة المبنية على أصول ومبادئ ثابتة، والتي أسست للعلاقات الاستراتيجية بين البلدين، تم تثبيتها من خلال الحفاظ عليها من قبل القيادتين الحاليتين بعد رحيل الإمام الخميني والقائد حافظ الأسد حيث لم يحدث أي تغيير في سياسة البلدين الخارجية وموقفهما من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية.
إن هذين البلدين، ومن جراء موقفهما من الكيان الصهيوني، وضعا الأساس لتشكيل جبهة المقاومة، وقدما دعمها الجاد لحركات المقاومة ضد الصهاينة، ولم يغيرا موقفهما هذا رغم فرض العقوبات السياسية والاقتصادية عليهما، وشن حروب مباشرة وغير مباشرة من خلال أدوات منحرفة وعميلة للصهاينة وللقوى الاستعمارية كما نراها اليوم في سورية. مع هذا ورغم كل العراقيل، لهذا الخط المقاوم إنجازات غيّرت موازين القوى في المنطقة، ورسمت معالم شرق أوسط جديد غير الذي كانت أمريكا بصدد تطبيقها في المنطقة، وأعلنت مخاض ولادته مستبشرة به مع افتراضهم نهاية المقاومة سنة 2006، لكن خاب ظنها وانتصر خط المقاومة فاتحاً بذلك العصر الجديد للشرق الأوسط حيث سقطت أسطورة أن الجيش الصهيوني أنه أقوى جيوش المنطقة، وظهرت قوة جديدة وهي المقاومة التي لايمكن تجاهلها.
يبدو أن العدو الصهيوني ومن يدعمه اقتنع باستحالة المواجهة المباشرة مع المقاومة فلجأ إلى المواجهة غير المباشرة من خلال إثارة الفتن بين أبناء الأمة الواحدة، وكذلك بين حكومات المنطقة حيث ما يجري حالياً في المنطقة منذ عدة سنوات، خاصة في سورية، ليس إلا مظهراً لهذه السياسة الخبيثة، والمستفيد الأكبر والأول هو الكيان الصهيوني وهذا ما أكده سماحة الإمام الخامنئي في أكثر من مناسبة خاصة في كلمته أمام المؤتمر الدولي السادس لدعم الانتفاضة الفلسطينية في طهران في شباط الماضي، حيث أكد سماحته:«إن منطقتنا التي طالما كانت دعامة لشعب فلسطين في كفاحه ضد مؤامرة عالمية، تعيش هذه الأيام اضطرابات وأزمات متعددة. لقد أدت الأزمات التي تعيشها بلدان إسلامية عدة في المنطقة إلى تهميش موضوع دعم القضية الفلسطينية والهدف المقدس في تحرير القدس الشريف.. الشيء الخطير في هذه الغمرة هو محاولات إضعاف مكانة القضية الفلسطينية والسعي لإخراجها من دائرة الأولوية.
على الرغم مما يوجد بين البلدان الإسلامية من الخلافات، إلا أن فلسطين مازالت تمثل عنواناً من شأنه أن يكون ويجب أن يكون محوراً لوحدة كل البلدان الإسلامية.. ينبغي عدم الغفلة أبداً عن الأخطار الناجمة عن وجود الكيان الصهيوني ولذلك يجب أن تتوفر لدى المقاومة جميع الأدوات اللازمة لمواصلة مهامها».
في هذا العام نستقبل يوم القدس العالمي في ظروف أخطر حيث هناك محاولات من بعض الدول العربية في المنطقة، وبالتعاون مع القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لوضع الحركات المقاومة على لائحة الإرهاب وهم بصدد تشكيل ماأسموه «حلفاً عالمياً لمواجهة الإرهاب». وليس خافياً على أحد أن الإرهاب هنا يعني المقاومة. تأتي هذه المحاولات بعد الصمود الأسطوري لمحور المقاومة على الأرض ولاسيما في سورية وبعد صمود قائدين كبيرين نحيي ذكراهما في حزيران هذه السنة.