د: جورج جبور
في 23 شباط 1966، قامت في سورية حركة تغيير سياسي أطاحت بقيادة الفريق أمين الحافظ ورئيس الوزراء الأستاذ صلاح الدين البيطار، رحمهما الله.. كان موقف الجيش أساسياً في نجاح الحركة. ومباشرة، إثر النجاح، أعلنت القيادة الجديدة ترفيع الضابط حافظ الأسد إلى رتبة لواء، وتسميته وزيراً للدفاع. كان من الواضح أن وزير الدفاع الجديد هو الصانع الفعلي للحركة.
قبل أربعة أيام من 23 شباط، كان الضابط حافظ الأسد منشغلاً، لا ريب، بأمور دقيقة تختص بالكيفية التي ستقوم بها الحركة، لكن ذلك الانشغال الخطير لم يشغله عن أمر آخر هو مطالعة العدد الأسبوعي الثاني من جريدة البعث الذي صدر صباح 19 شباط 1966.
كانت جريدة البعث قد قررت دعم مسيرتها بإصدار عدد أسبوعي ذي صفحات أكثر، ومحتوى أغنى. كان يعمل في الجريدة، آنذاك، شخصان اعتبرهما من الأصدقاء. أوثقهما صلة بي هو المحامي الأستاذ مروان الحصري – أين هو الآن؟ لا أدري. منذ مدة طويلة لم ألتق به أو تردني أخبار منه أو عنه، وأرجو أن يكون ما يزال معنا في هذه الفانية، وأدعو له بطول العمر. أما الثاني فهو الأستاذ إميل شويري، رحمه الله، الذي كان كاتباً شهيراً في تلك الأيام، وقد سمي في وقت لاحق مندوباً دائماً لسورية لدى اليونسكو. أما المسؤول الأول في الجريدة، آنذاك، فكان الأستاذ طارق عزيز، رحمه الله، من العراق، ولم أكن أعرفه، بل لم أتعرف عليه إلا في مؤتمر القمة العربية في تونس عام 1979، وكان ذلك التعارف بفضل إشكال في مصعد فندق كان مشغولاً بوفود الدول العربية المشاركة في القمة. من تقاليد البعث الجميلة، التي حرص عليها، ألا يفرق، بمعيار الجنسية، بين بعثي وآخر في تولي المسؤولية الأولى عن الجريدة الناطقة باسمه. بعد طارق عزيز، كان للجريدة عدة رؤساء تحرير من غير السوريين، أذكر منهم الأستاذ عبد المحسن أبو ميزر، رحمه الله، وهو من فلسطين، والدكتور فواز صياغ، أطال الله عمره، من الأردن. وبالطبع فإن رئيس التحرير الحالي، الأستاذ محمد كنايسي، تونسي الجنسية.
سألني الأستاذ الحصري إمداد الجريدة بمقال. هو يعرف شغفي بالكتابة، إذ تزاملنا في كلية الحقوق أيام كنت رئيساً لتحرير مجلة “العروبة” الناطقة بلسان اتحاد طلاب جامعة دمشق في العام الدراسي 1959/1960. استجبت لدعوة الزميل الكريم.. فعلت، بعد أن أعجبني العدد الأول. سلمته دراسة عن منظمة الوحدة الأفريقية. وفي ختام الدراسة، قارنت بين المنظمة وبين جامعة الدول العربية. امتدحت المنظمة لأنها جعلت الوحدة في صميم اسمها وميثاقها. وأظن أيضا أنني امتدحت أسلوب اتخاذ القرارات في المنظمة لأنه يعتمد الأغلبية لا الإجماع. أقول “أظن”، لأنني لا أملك نسخة من العدد الثاني من البعث الأسبوعي. وقد يكون أحد حوافز كتابة هذه الكلمات حث من لديه نسخة من ذلك العدد لكي يطلعني على الدراسة المنشورة فيه.
اطمأننت صبيحة 19 شباط إلى أن دراستي منشورة. ربما أنني تجولت حاملاً نسخة من العدد، فرحاً، أطلع عليه الأصدقاء. لكن الفرحة الأكبر كانت بعد وقت قصير من عودتي إلى المنزل. هتف لي من عرف نفسه بأنه طارق عزيز رئيس التحرير. قال إن اللواء حافظ الأسد اتصل به وأعلمه إعجابه بالدراسة، وطلب منه تزويده برقم هاتفي ليتصل بي مهنئاً. سررت بالطبع. كان اسم حافظ الأسد متداولاً بكثافة في تلك الأيام، فبموقفه يتحدد المستقبل السياسي للحكم. قال رئيس التحرير أن اللواء الأسد يود مهاتفتي، لكنه لم يفعل. كان ذلك لقائي الأول مع من غدا رئيساً للجمهورية. لقاء أول رغم أنه لم يتم.
قيض لي في أوقات لاحقة أن أتأكد أن حافظ الأسد كان قارئاً جيداً ليس للمقالات والدراسات والكتب فحسب، بل للأحداث أيضاً. وعلى أساس من جودة قراءته للأحداث، أبدع كثيراً من الأحداث التي تعتز بها سورية ويعتز بها العرب.