خارج حلبة التكهنات – علي قاسم

تزدهر التكهنات بتواتر متسارع في مناخ يكاد يكون سابقة في مشهد العلاقات الدولية, لجهة السيل المتلاحق من التفسيرات والاستنتاجات التي تتزاحم من كل حدب وصوب، وتلامس في بعض مستوياتها حدود الجزم بما ستؤول إليه الأمور، ولا تتردد في البناء على التجاذبات القائمة داخل حلبة النقاش, أو تلك التي تستجد لمصادرة النتائج وإطلاق الأحكام القطعية, وأحياناً التوقيع على « البيان الختامي » مسبقاً وقبل أن ينطلق المؤتمر ذاته !!‏

 

ولا تغيب عن الذهن حالة الالتباس القائمة في كثير من التفاصيل الملحقة التي تحاكي في أغلبها تمنيات وأوهاماً ولا تستبعد من حساباتها ما يجري في الكواليس وفي الغرف المغلقة، وقد تكون في جزء منها انعكاساً لحالة الخلط التي تشهد ازدحاماً في الممرات الرئيسية والجانبية المؤدية إلى المؤتمر الدولي، وهي تعبث في الأوراق والألويات وفق تمنياتها تلك وحسب أوهامها.‏

 

فإذا كان من الطبيعي أن تحفل حلبة النقاشات التي تسبق المؤتمر بكثير من التجاذبات التي ترتفع أسوارها ويشتد اللغط داخلها، فإن تعمّد تسريب التكهنات من خارجها يبدو مثيراً في الكثير من جوانبه ليس لابتعاده عن الحقيقة فقط، وإنما أيضاً لأنه يدخل في صلب المحاولات المحمومة لتشتيت الانتباه، وخلق حالة من الالتباس بفهم المجريات وصولاً إلى تسويق حالة افتراضية كانت أداة للحرب ووسيلة للعدوان على مستويات مختلفة، ويراد لها أن تستكمل ما بدأت به.‏

 

ورغم اليقين بصعوبة الفصل بين الحالين نتيجة التراكم المتواصل في الخطوات الاستباقية التي تثير اللغط وتعيد خلط الأوراق، والإضافات القادمة من خارج السياق، فإنه لم يكن من الصعب ملاحظة الكثير من التفاصيل التي حفل بها حديث كيري وهو يقدم مقاربة أميركية تستولد في نهاية المطاف الخلاصات التي تدفع إلى الجزم بأن ما يجري لا يخرج بأي حال من الأحوال عن النص الأميركي الذي يفتعل تلك المشاهد، كي تبقى التكهنات هي السائدة حتى النهاية.‏

 

وبغض النظر عن الحكم على تداعيات الحماس الأميركي ولغة التلاعب بالمفردات والمصطلحات، كان من الواضح أن الأميركي لا يزال يراهن على الوهم الذي يتلبس أدواته ومرتزقته والكثير من تابعيه، ولم يعدل من المحاكاة القائمة على ازدواجية النظرة التي تسوّق في نهاية المطاف للخطاب الإرهابي تحت عناوين مشتقة من النفاق الأميركي ذاته، وتسلك الطريق نفسه مع الإضافات التي تقتضيها، حيث الفرنسي المستضيف يبحث في القاعات الجانبية وفي الممرات الهامشية عن موضع قدم وهو في عاصمته، بعد أن اتضح بشكل لا يدع مجالاً للشك بأنه خارج الحسابات حين يكون العد في حلبة الكبار.‏

 

وعلى المقاس ذاته كانت البقية الباقية تتدرج في تموضعها على الأدراج الخلفية بانتظار الإشارة الأميركية التي بدت أكثر غموضاً من أي وقت سابق، وهي تتحدث عن التنظيمات الإرهابية فيما تتجاهل الأصابع والأذرع المتشابكة معها في التمويل والدعم والتحريض، أو تلك المتحالفة معها في المصير والوجود، وتعيد جدولة الاشتراطات والاستبعاد لهذا وذاك على مقاس المطلب السعودي الذي تشربته المقاربة الأميركية حتى آخره.‏

 

لذلك كان من الطبيعي أن نجد ذلك الفارق الهائل بين ما يجري داخل حلبة التكهنات وما هو متداول خارجها، خصوصاً بعد أن عجز كيري عن ملاحقة الحد الفاصل، فترك الحبل على الغارب كي يدخل المبازرة ذاتها التي يغرق فيها حلفاؤه قبل أدواته ويتعثر فيها أصدقاؤه قبل مرتزقته، وهو ما يستدعي استرجاع النقاط جميعها، وإعادة تموضعها فوق الحروف التي تطابقها، بعد أن وصل الخلط ب كيري إلى التحدث بلسان لا يشبه الأميركي، وبمفردة تبدو بعيدة عن تداول الخطاب الأميركي، لكنها في جوهرها لا تنفي اللبس ولا تلغي الالتباس المتعمد.‏

 

ما بات مؤكداً لنا كما هو لغيرنا أن المعضلة التي حالت وتحول دون أن يلتئم جنيف في حينه لا تزال في العقدة ذاتها، وأن التشرذم الذي حال ويحول دون انطلاق المسار السياسي كان ولا يزال في غياب ما يمكن اعتماده أميركياً على طاولة جنيف، كما هو خارجها، ولو تمكنت يوماً منه فلن تنتظر جنيف ولا غيرها.‏

 

وحتى تتمكن من التقاطه هجيناً كان أم أصيلاً.. تم تصنيعه على عجل أم أحضرته أروقة الغرف السرية والقاعات المغلقة، سيبقى اللغط متواصلاً وستبقى حلبة التكهنات على أشدّها وستشهد جولات وجولات، أما خارجها فكما كان منذ البداية مواجهة مفتوحة بين من يريد الحل السياسي ومن جاهر ويجاهر حتى اللحظة بدفاعه عن التسليح والتمويل، ومن يجهد كي يجد فارقاً بين إرهاب سيئ وآخر أكثر سوءاً، بين متطرف متشدد ومتطرف أكثر تشدداً، وكما أن لا فارق بين داعش والنصرة والقاعدة على ما قاله كيري، فإنه لا فارق بينها وبين من يدعمها، ولا بين كل ما نبت منها وما ينبت بين ظهرانيها، حتى لو تغيرت التسمية أو تعدلت طريقة الاستنساخ.‏

اخبار الاتحاد