هناك عبارتان متداولتان جداً، وهامّتان جداً في التفكير الأميركي هما: planning is everything؛ وتعني أن التخطيط هو كلّ شيء، وTiming is everything؛ أي أنّ التوقيت هو كلّ شيء. وهاتان العبارتان تدخلان في جوهر السياسة والاقتصاد والتحصيل والإنجاز في أيّ مجال من مجالات الحياة. وبالمقارنة، وفي محاولة جادّة من كاتبة هذه السطور لاتخاذ موقف محايد جداً، ولمحاولة قياس ما يجري وما جرى في بلداننا العربية من منظور هاتين العبارتين، نجد أنّ شبه غيابهما عن تاريخنا وحاضرنا يكاد يكون أحد الأسباب الأساسية لما نجد أنفسنا عليه اليوم من ضعف وهوان وشقاق واقتتال.
القدس هي الكاشفة لجوهر هذه المخططات ومبتغاها، فهل نرتقي ونتعلم؟ القدس هي الكاشفة لجوهر هذه المخططات ومبتغاها، فهل نرتقي ونتعلم؟ وبما أنّ المجال لا يتّسع هنا للغوص في التاريخ بشكل جدّي ومدروس، يمكن لنا أن نستذكر فقط بعض المحطات الأساسية مع إلقاء ضوء هامّ على ما يجري اليوم في قدسنا وعراقنا وبلادنا الشامية بشكل خاص، والعربية بشكل عام. علّ أحد المحدّدات الأساسية الفكرية لهذه المحطات هي أنّ الغرب بشكل عام، وأعداء الأمة تحديداً يخطّطون لمئة عام، ويدرسون التوقيت بشكل جيد، ويهيّؤون الظروف, ثمّ يظهرون الهدف الأهمّ، ويركّزون عليه، ويدورون حوله لعقود أو لقرون إذا لزم الأمر. فقد عقد مؤتمر بازل عام 1897، ولم تعلن الدولة اليهودية إلاّ عام 1948، أي بعد خمسين عاماً من العمل اليهودي المتواصل في كلّ أنحاء العالم لإنشاء وطن قومي لهم. على المقلب الآخر، نجد أن أعمال العرب وحروبهم ومعاركهم تأتي غالباً أو دائماً على شكل ردود أفعال، ولا تعتمد على التراكمية أو تتمتع بالاستمرارية وهي خارج نطاق التفكير والتخطيط والتوقيت المناسبين، ولدى كلّ مفصل يقنع العرب أنفسهم أنّ المعركة انتهت ويسود الارتياح الجوّ العام، بينما ينخرط العدوّ في عمل ظاهر أو باطن لاستثمار المعركة الماضية، أو التحضير لمعركة جديدة موصولة بها. نتيجة هذا الفارق في التفكير والتخطيط والتوقيت نجم كثير من آلامنا ومواقع ضعفنا وفشلنا في تحقيق المرتجى من مسيرة بلداننا وشعوبنا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لنأخذ مسألتين راهنتين يركّز عليهما الإعلام، وتنشغل بهما الأقلام والشاشات وتشكلان مادة للحوارات: الدولة الكردية في العراق، والجرائم المرتكبة اليوم بحقّ المسجد الأقصى في فلسطين. لقد كان تقسيم العراق أبرز النتائج التي تحدّث عنها أوديدينون في استراتيجيته المنشورة عام 1982، والذي تحدث عنه بن غوريون سابقاً. ولذلك فإنّ الجدل الدائر اليوم حول الاستفتاء في شمال العراق، وتأسيس كيان كردي برزت إسرائيل ليس فقط كأول من رحّب به، بل كراع ومشجّع ودافع لخلق مثل هذا الكيان الحليف لإسرائيل في العداء للعرب والطامع هي إسرائيل في أرض وماء وثروات العرب. إنّ هذا الجدل هو استمرار ونتيجة لتخطيط مزمن وطويل ومدروس، ولاختيار توقيته المناسب الآن حيث إنّ العراق والأمة في حالة ضعف وهوان وشقاق لا تستطيعان معها صدّ الرياح عنهما، أو اتخاذ فعل يمكن أن يغيّر من وجهة هذا المخطط وفعاليته ونفاذه. وما يجري اليوم من جرائم ترتكب بحقّ المسجد الأقصى، ومنع الأذان والصلاة فيه للمرة الأولى في تاريخه منذ الحروب الصليبية، وسرقة سجلات القدس التي تعود لأكثر من 800 سنة هو حلقة في عملية بدأت منذ اختلاق الكيان الصهيوني، وأخذت زخماً ودفعاً في الحريق المفتعل للمسجد الأقصى عام 1969 محطة هامة فيه حيث كانت غولدا مائير تخشى ردة الفعل الإسلامية، لكنها فوجئت بردّة فعل باهتة جداً، وكان هذا درساً مستفاداً للصهاينة لايزالون يعملون وفق معطياته، إذ تجرأوا على أقدس المقدّسات العربية والإسلامية والإنسانية. وما هي ردود الأفعال اليوم ممّن يدّعون أنهم حماة الإسلام وحماة المقدّسات؟ ردّ فعلهم هو السير في التطبيع مع هذا الكيان، والانقلاب على كلّ تآلف وتحالف يمكن أن يزيد من عضد المسلمين والمقاومين. توقيت هذه الجرائم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإجراءات التي اتخذت ضدّ السودان، وبالحرب على العراق وليبيا وسورية واليمن، ومسؤولية صدّ هذه الجرائم ليست مسؤولية فلسطينية بحتة، بل هي مسؤولية أمة عربية، وأمة إسلامية؛ فما يجري في فلسطين، وما يتعرّض له الفلسطينيون وقدسهم ومقدّساتهم هو نتيجة تخطيط وتوقيت لما جرى على مساحة هذه الأمة. القدس هي الكاشفة لجوهر هذه المخططات ومبتغاها، فهل نرتقي ونتعلم، وهل نوقن أن بعضاً من مآسينا هي نتيجة القصور في التفكير والتقصير في التخطيط والتوقيت والعمل والأداء؟! |