عبد اللطيف عمران
يبدو أن لا مجال لحديث الذكريات أمام الجيل الجديد، الطالع إلى الحياة في وقائع متسارعة ومتجددة لاتزال عصيّةً على التصنيف بعد، بما لهذا الحديث من شجون رومانسيّة: ثوريّة أو حالمة.
فنحن اليوم أمام شباب على أبواب التخرج من الجامعة وُلدوا حوالى عام 2000، وبُعيد ولادتهم استقبلتهم الحياة الجديدة بما فيها من ثورة المعرفة، وسرعة انتقال المعلومة، وما رافق هذا وتلاه من محرّكات البحث الغنيّة والمتنوّعة، وتعدّد وسائل التواصل الاجتماعي … إلخ، ما انعكس بشكل متباين على مسألة الزمن: فجوة واسعة مع الماضي القريب من جهة، واختصار شديد للزمن الحاضر في الحصول على المعرفة والتكنولوجيا الرقميّة من جهة ثانية.
في الظروف الراهنة التي تعيشها أوطاننا وأمّتنا بما فيها من مؤسسّات تنفيذيّة وحزبيّة وشعبيّة وتربويّة وأكاديميّة، تجد أجيال الستينيات من القرن الماضي صعوبة في التواصل مع الجيل الجديد في حديثها عن المناسبات الوطنيّة والقوميّة؛ هل هو حديث ذكريات مضت، أم ميلاد جديد للروح الوطنيّة والعروبيّة المنشودة في هذا الزمن الصعب؟
في كلا الحالين: الذكرى أم الميلاد، لا بدّ من (استلهام) الروح الوطنيّة والعروبيّة الوثابّة التي أنجزت ما مضى من حركة التحرّر الوطني والاستقلال العربيّة، وما نتج عنها من روح وثابّة معطاء لدى الفرد والمجتمع والوطن والأمّة انعكست في تألق الشعور، والعمل الوطني والقومي العربي في مواجهة الاستعمارين: القديم “العثماني” والجديد “الغربي”، وكذلك التجزئة، والتخلّف، والصهيونيّة، والرجعيّة العربيّة …
في القطر العربي السوري هكذا كانت المناسبات والأعياد الوطنيّة والقوميّة في 7 نيسان …، و17 نيسان… ، و23 شباط 1958… ، و8 آذار 1963… ، و23 شباط 1966… ، و16 تشرين الثاني 1970…، ولنعتبر هذه النقاط فراغات يجب ملؤها.
وليس من قبيل الاختبار، لكن لا ضير إذا طلبنا من الجيل الجديد ملء هذه الفراغات بعد الأرقام بالمناسبات الوطنيّة والقوميّة المواكبة لها، فقد نجد غير قليل من المفاجآت في الإجابة، وهذا لا يعني أنّ الجيل الجديد لا ذاكرة وطنيّة له، بل يعني بكل التأكيد أن التكنلوجيا الرقميّة وطدّت في أذهانه ذاكرة من نوع جديد ينبغي للآباء أو الروّاد المؤسسّين –من بقي منهم- التعامل مع هذه الذاكرة بحذر شديد.
فعلى الأحزاب والمنظّمات وسائر القوى والتيّارات الوطنيّة والقوميّة العربيّة مع هذا الواقع أن تعيد النظر في الحقل الدلالي الناجم عن كلمة (جديد) في عالم اليوم (الجديد) أيضاً منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي بوش الأب في أيلول 1990 ولادة “النظام العالمي الجديد” الذي أدّى إلى تغيير جذري في الفكر وفي العمل السياسي العالمي، وفي توازن القوى على الساحة الدوليّة بادّعاء هدف تجاوز العقد التاريخية والنفسية الماضية، والنظر إلى العالم باعتباره قرية واحدة … وأسفرت الوقائع الجديدة في هذا النظام عن أن هذه القرية الواحدة مركزها سيكون واشنطن … ومع هذا الجديد تألّق طرح (نهاية التاريخ) الذي بدا مع وباء كورونا أنه لا يختلف عن طرح (نهاية العالم).
مع هذا الجديد في النظام العالمي تألّق أيضاً طرح الجديد من المحافظين الأمريكان، والجديد من المؤرّخين الصهاينة، والجديد من الشرق الأوسط، والجديد من الليبرالية، والجديد من اقتصاد السوق … والجديد من المؤامرات والأطماع ومن التحالفات المشبوهة التي تستهدف حاضر ومستقبل العرب وتسعى لاستكمال مشاريع التجزئة والتفتيت القديمة المتجددة من خلال محاصرة الإرادة العربية وتطويق وأي استراتيجية للنهوض القومي.
الأمر الذي يعيد تأكيد حقيقة أن البعث هو أحوج ما نكون إليه اليوم في هذه المرحلة العاصفة، فأين نحن البعثيّون العروبيّون الوطنيّون التقدميّون في الذكرى 73 لميلاد حزبنا العظيم من هذا الجديد؟.
السؤال المعضلة هو أن هذا الجديد الذي نرزح تحت مفرداته لم يعد جديداً بعد مضي أكثر من ربع قرن عليه، فأين نحن اليوم أيضاً مع قسوة تحديّات الرهان على هويّة الأجيال الطالعة، وعلى وعيها وانتمائها، مع نمو هويّات وانتماءات ضيّقة على حساب الهويّة الوطنيّة العربية، مع المفرزات الأليمة لما دُعي بالرّبيع العربي … وصولاً إلى أجيال خمسة من الحروب قد يكون فيروس كورونا هو السادس منها؟!.
نحن البعثيّون في الذكرى 73 لميلاد حزبنا علينا أن نستلهم ونلهم الأجيال الطالعة معاني جديدة، بل متجددة، للذكرى وللميلاد. ومع الجديد فقد كنا، وسنبقى أمل اليوم والغد الواعد المشرق، فالجديد من تحديّات الماضي الذي واجهه أباؤنا من الرفاق يتجدد اليوم أمام الأبناء من الرفاق، فأردوغان باحتلاله وطموحاته الشيطانيّة هو استعمار قديم متجدد، والاحتلال الأمريكي استعمار جديد متجدد، وكذلك الاعتداءات الصهيونيّة، والرجعيّة العربية، والتطرّف والتكفير والإرهاب … إلخ.
إنّه واضح تماماً أننا مازلنا وسنبقى على رأس أعمالنا، وإذا كان جدول أعمالنا لم يتغير كثيراً، فإنه واجب علينا أن نجدد الوسائل.