د.بثينة شعبان
حين تتكرر كلمة “عواينية” في مسلسل “حارس القدس” نستجمع ونستعيد في الذاكرة كل المآسي التي تعرضت لها هذه الأمة من محيطها إلى خليجها.. اليوم على كلّ الأحزاب والفعاليات العربية أن تعلن أنها حرس للقدس، وأنها ضد مسيرة الذلّ والهوان والارتهان لأعداء الأمة والحق والمستقبل.
هل فوجئتم بمسلسل أمّ هارون وغيره من مسلسلات الخنوع التطبيعية في الموسم الرمضاني، وهل صعقتم أن تسمعوا من خائن يتكلم العربية يشتم فلسطين ويتهمها بأنها السبب بما حلّ بهم من ضعف وهوان؟ وكأنه لم يسمع تصريحات الأعداء يؤكدون أن الهدف ليس فلسطين فقط وإنما البلدان العربية كلها؟ أوَ لم يدرك هو وأمثاله أن فلسطين أعطتهم الفرصة لاستعادة مكانتهم، ولكنهم أداروا ظهورهم لفلسطين، فوصل العدوّ إلى عقر دارهم. وبتصريحاتهم وأعمالهم التطبيعية قد حكموا على أنفسهم بالارتهان لإرادة عدو يعرف ما يريد ويدرك السبل لتحقيقه، وقد تسلل إلى قرارهم السياسي وأصبح في قبضته، وما زعيقهم المعادي لحقوق أمتهم إلاّ حشرجات هزيمتهم.
هل عجزت المناهج التربوية في الوطن العربي بكل أقطاره أن تعالج نقطة الارتهان للخصوم والأعداء وأن تربيّ جيلاً مخلصاً لوطنه لا يمكن شراؤه بأي ثمن ضد مصلحة الأوطان ؟ أم أننا لم نتوصل إلى مرحلة الأوطان بعد ومازال البعض يعيش ويتصرف كقبائل وعشائر حتى وإن استوردوا نماذج من أساليب الحياة الغربية أم أن هذا التمظهر بمظهر من نعتقد أنهم أكثر حضارة منا كان على حساب تجذير وتثبيت الأسس والعادات والتقاليد العربية الأصيلة التي نفخر بها في بلداننا وحضارتنا؛ فلم نحدّث على أساس تطوير ما ثبتت إيجابيته في حياتنا بل تملكتنا عقدة المستعمر وعقدة تفوق الأجنبي وعقدة الشعور بالنقص تجاههم فتركنا ما هو إيجابي ومنطقي من حضارتنا ومناسب لطريقة عيشنا وبيئتنا وتركيبة عائلتنا ومجتمعنا وقيمنا وأخذنا بالقشور من مجتمعات وحضارة عدوانية قائمة على حروب النهب والاستعمار وتدعي الإنسانية والحضارة.
حين تتكرر كلمة “عواينية” في مسلسل “حارس القدس” نستجمع ونستعيد في الذاكرة كل المآسي التي تعرضت لها هذه الأمة من محيطها إلى خليجها، وفي البحث والتدقيق والتمحيص نكتشف أن عقدة النقص تجاه الآخر والارتهان له أو لأسلوب عيشه أو لماله أو لمغرياته كانت سبباً أساسياً في عدم تمكن هذه الأمة من أن تخلق على الأقل علاقات إيجابية بين بلدانها تخدم مصلحة الجميع؛ ففي كل مفصل انكسار أو هزيمة نكتشف أن الخيانة كانت سبباً أساسياً في وقوعه.
هل فشلنا حتى اليوم بتحديد من نحن وما هو جوهر هويتنا التي نعتز بها وما هي آليات العمل التي تخدمنا جميعا وتضعنا في الموقع الرابح؟
إحدى أهم المشكلات التي صادفتنا في كتابة تاريخنا هي عدم الصدق وعدم الشفافية والمبالغة في مراعاة المشاعر الشخصية على حساب القضايا الوطنية؛ إذ إن عدداً من الذين عرفتهم شخصياً رفضوا أن أسجّل مذكراتهم لأنهم قالوا إن رواية التاريخ الحقيقي الذي عاشوه سوف تُري أن التاريخ الذي ندرّسه لأجيالنا غير حقيقيّ، وكان سؤالي هل نستمر بدراسة وتدريس تاريخ مزيّف أم نواجهه من خلال كتابة التاريخ الحقيقي؟ وكان جواب كل واحد منهم : وهم أسماء كبيرة وقامات يُعتدَّ بها، “دعي غيري يواجه هذه المعضلة ولست مضطراً لأن أواجهها الآن”. وهنا تكمن مشكلة أكبر، من هم أصحاب القضية الذين يعتقدون أن مهمتهم ومسؤوليتهم هي أن يواجهوا الزيف وأن يضعوا الأسس السليمة لتاريخ حقيقي تقرأه الأجيال وتتعلم منه وتأخذ منه العبر وتتربع على أرضية صلبة لا تسمح لأحد أن يجنّد “عواينية” من بينهم.
في القرن الحادي والعشرين نراقب حال أمتنا فنجد أنها في العمق مازالت قبائل وعشائر وأن مفهوم الدولة ومفهوم الوطن لم يأخذ أبعاده المستحقة في وجدان وضمائر الجميع. اليوم حيث برهنت أحداث هذا القرن وخاصة أحداث العام 2020 أن أهم حق إنساني للشعوب هو الحق بوجود دولة قوية قادرة على مواجهة الأزمات والصعاب. العالم برمته اليوم يدرك أن أهم ما يحتاجه المجتمع البشري في كل مكان هو الدولة الحصينة القادرة على حماية أبنائها وأن كل طروحات العولمة والادعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي روجوا لها على مدى عقود كغطاء من أجل استعمار الدول ونهب ثرواتها لم تصمد أمام فايروس لا يرى بالعين المجردة ، لذلك نحن نشهد اليوم انحسار عصر العولمة والليبرالية الجديدة اللتين تبنّاهما مفكرون عربٌ كثرٌ بدلاً من أن يعودوا إلى ابن رشد وابن خلدون وإلى كنوزنا التاريخية ذات العراقة الأصيلة مع الوجود العربي والحياة العربية؛ ففي الوقت الذي يُدرّس فيه ابن رشد ومحي الدين بن عربي في جامعات العالم الغربية قلما نرى كتاباتهما وكتابات مفكرين آخرين في المناهج التربوية في البلدان العربية.
لقد اعترف أدونيس وزملاؤه الذين عملوا على الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين أنهم أخذوا بالحداثة الغربية بدلاً من أن يعيدوا تسليط الأضواء على المحدّثين العرب ويبنوا على محاولاتهم.
هل تأخرنا كثيراً في إعادة الاعتبار لما تضمنه تاريخنا من فكر ومعارف منسجمة مع بيئتنا وتكويننا ومجتمعنا ؟ أي هل فات الأوان كي نقوم بهذا الأمر؟ لا بد أن أقول “أن تصل متأخراً خير من ألا تصل على الإطلاق”. وقد برهنت الأحداث بما لا يقبل الشك أن الولاء للأوطان هو ضرورة جوهرية لعزّة هذه الأوطان وأن التعاون والتنسيق بين الدول العربية على أسس التاريخ والجغرافيا والثقافة الواحدة هو المخرج الوحيد لجميع هذه الدول من حالة الضعف والانحسار الذي تشهده وأن أي دولة عربية لن تستطيع أن تبني مجداً أو تحتل مكانة إقليمية أو تحقق مشروعها الإصلاحي أو الازدهار دون التعاون مع الدول العربية الأخرى بصيغة أو بأخرى. أما هؤلاء الذين ما زالوا يراهنون على الأعداء فليتمعّنوا في تجارب الدول العربية التي عقدت سلاماً مع العدوّ، واتفاقيات على أمل أنّ هذه العلاقة سوف تحقق لها النموّ والمكانة الإقليمية والعالمية، فهل حقّقت ذلك بالفعل، أم أنها ازدادت وهناً وقيداً وعجزاً عن اتخاذ القرار داخل البلاد وعلى المستويات الإقليمية والدولية؟ لن تحقق لهم الأفكار المطروحة في أم هارون سوى المزيد من الذل والهوان. أما عين الحقيقة فقد قالها حارس القدس لأم عطا “حين تدافعين عن بيتك في القدس فأنت تدافعين عن بيتي في حلب”.
لا شك أن العروبة هي الحل وأن الذين شوّهوا مفهوم القومية العربية هم الذين وضعوا مشروعهم كبديل لهذه القومية يعملون اليوم على نشره وتأسيسه على أرض ليست أرضهم وفي بلاد ليست بلادهم وبدأوا في هذا العام بإنتاج المسلسلات الدرامية التي تحاول أن تظهر أحقيتهم في هذه الأرض على حساب أصحاب الأرض الأصليين وهم العرب.
إن الأحداث من اليمن إلى الخليج برمته إلى العراق إلى ليبيا إلى سورية إلى السودان تستدعي مراجعة صادقة جريئة وشاملة لأساليب العمل التي اتبعتها هذه البلدان في القرن الماضي، وتستدعي اجتراح أساليب جديدة وأدوات جديدة كي نتمكن من بناء ما فات، وكي نستدرك مكانتنا بين الأمم في عالم ما بعد كورونا، حيث نشهد اليوم صراع الإرادات، والأعين شاخصة إلى شكل المستقبل وهويته وقادته الأساسيين. من أجل إنجاح أيّ خطة أو رؤية أو خارطة طريق مستقبلية لا بدّ أولاً من تحديد أماكن الخلل، والتي قادت بلداننا من وهن إلى وهن في وجه عدوّ لا يقاربنا عدداً أو عديداً أو أحقية في أيّ مشروع إقليمي، بل انتعش على نقاط ضعفنا وثغراتنا، وكرّس جهوده لتفكيك صفوفنا دون أن نضع استراتيجية بديلة تجعل من المستحيل عليه بلوغ أهدافه. لقد عمل العدوّ على تعزيز نقاط قوته من خلال تفكيك صفوفنا وضمان عدم وحدتنا واختراق أجيالنا كي نصل إلى مكان العزة والكرامة يجب أن نكون جميعاً حراساً للقدس قولاً وفعلاً وفداء وتضحية.
أهي مصادفة فعلاً ان تُستهدف المدارس في العراق وفي سورية وليبيا واليمن وفي أي مكان وفي أي بلد يُستهدف من قوى غازية أو قوى الاحتلال؟ تستهدف المدارس والتعليم، ذلك لأن العلم والمعرفة هما الضمانة الحقيقية للسير على الطريق السليم وهما الضمانة الحقيقية لتحقيق الهدف وهما الضمانة الحقيقية لتقدّم البلدان وازدهارها ولا شك أن التعليم والمعرفة قد تراجعا بشكل غير مقبول في العالم العربي ولأسباب مختلفة من أهمها انتشار ثقافة البترودولار الكارثية على هذه الأمة، ولن نتمكن من أن نسد الثغرات التي أدت إلى وجود “العواينية” والمخترقين والعملاء والجهل والتقصير إلا من خلال إعادة النظر بالمناهج التربوية ووضعها بطريقة تخدم الأهداف المرجو تحقيقها في المستقبل.
ما نحتاجه اليوم هو مراجعة عميقة جريئة شاملة وأن نبني على أساس نتائج هذه المراجعة. نحن لا نمتلك الوقت وليس لدينا ترف الانتظار كان يجب أن نبدأ في القرن الماضي وليس فقط البارحة ولعلّ التهديد الوجودي لحضارتنا وأمّتنا يشكل حافزاً لنا كي نرى النور ونعمل بما يتوجب عمله كي نستعيد مكانتنا كعرب في الإقليم والعالم. ولا شك أن الخطوة الأولى تتمثّل في التعبير عن كل أشكال الرفض الحقيقي “لأم هارون” و”مخرج 7″ وكلّ الذلّ والارتهان الذي أدى لهما والذي حاول من قبل تغيير ثقافتنا الأصيلة من خلال إغراءات البترودولار واليوم يحاول تشويه هذه الثقافة مستعيناً بألدّ الأعداء والخصوم. اليوم على كلّ الأحزاب والفعاليات العربية أن تعلن أنها حرس للقدس وأنها ضد مسيرة الذلّ والهوان والارتهان لأعداء الأمة والحق والمستقبل.