المسيحية مصطلح مقدس وثِقَ ظهوره الأول على أرض سورية المباركة- 1 من 2

(إهداء من سورية السلام إلى مسحيي العالم)

بقلم: المؤرخ الدكتور محمود السيد-المديرية العامة للآثار والمتاحف- والإعلامي محمد عماد الدغلي

تؤكد اللقى والأوابد الأثرية والنقوش الكتابية المكتشفة في سورية اسهامات الشعب السوري المميزة في إرساء أسس الحضارة الإنسانية العالمية والشرائع السماوية الثلاث ودوره المركزي كجزء أصيل من تاريخ شعوب العالم وذاكرتها الحية. ومن أرض سورية المباركة وبالتحديد من لواء اسكندرون السوري أطلق للمرة الأولى في العالم على اتباع النبي عيسى عليه السلام اسم المسيحيين ومن مدنه انطلق المبشرون بنور المسيحية نحو سائر أنحاء العالم لنشر تعاليم الشريعة المسيحية السمحة في الحق بالكرامة والمساواة بين جميع البشر وبوجوب احترام حياة الإنسان وتحريم الزنى، والسرقة، والكذب، واشتهاء ما للغير والإجهاض، والانتحار، والإدمان والعنف ضد الجسد البشري والقتل والتحريض عليه أو المشاركة فيه. وكل تعاليم المسيح يمكن إيجازها بكلمة واحدة وهي “المحبة” وهي العلامة المميّزة لأتباعه. ويعود أصل العرب المسيحيين المقيمين في لواء اسكندرون إلى قبيلة الغساسنة العربية ما يؤكد عروبة اللواء.

ظهرت المسيحية أكثر الشرائع أتباعا في العالم مع بداية نشر رسالة السيد المسيح حوالي عام 25 ميلادي وانبثقت المسيحية من الديانة اليهودية فجذور المسيحية تأتي من اليهودية، التي تتشارك معها في الإيمان بكتاب اليهودية المقدس “التوراة”، الذي يدعى في المسيحية العهد القديم. واخذت الكثير من المعالم اليهودية كوجود إله خالق واحد ويطلق على الكتاب المقدس الأساسي للمسيحية اسم الإنجيل أو العهد الجديد، وهو مجموعة التعاليم التي أتى بها السيد المسيح عليه السلام ونشرها والتي تحدد علاقة الإنسان بالله وبالناس وبالمجتمع والكون وتحدد ما يجوز فعله وما لا يجوز ثم قام تلاميذ المسيح الاثنا عشر بكتابة هذه التعاليم و نشرها في الأصقاع.

يتألف الكتاب المقدس من قسمين متمايزين هما العهد القديم والعهد الجديد وهو المصدر الرئيسي والأهم في التشريع المسيحي. ويتكون العهد القديم من ستة وأربعين كتابًا يطلق عليها اسم أسفار، وقد قسّمت أسفار العهد القديم إلى أربعة أقسام وفروع أولها التوراة التي تؤلف أسفار موسى عليه السلام الخمسة، ثم الأسفار التاريخية وأسفار الأنبياء والحكمة؛ أما العهد الجديد فيحتوي على سبعة وعشرين سفرًا وهي الأناجيل الأربعة بالإضافة إلى أعمال الرسل وأربعة عشر رسالة لبولس وسبع رسائل لرسل وتلاميذ آخرين وسفر الرؤيا. ومواضيع الأسفار مختلفة، فإن اعتبر سفر التكوين قصصيًا بالأولى، فإن سفر اللاويين تشريعيًا بالأحرى، أما المزامير فسفرٌ تسبيحي، ودانيال رؤيوي.

وتوثق الوثائق التاريخية أهمية ومكانة الدور العالمي لمدينة أنطاكية السورية المشيدة في الركن الجنوبي الغربي لسهل العمق عند النقطة التي يدخل فيها نهر العاصي في نصرة أتباع الديانة المسيحية ونشر تعاليم الانجيل السمحة في كل بقاع العالم. فإلى أنطاكية وفد المبشرون الأوائل ومنها انطلقت البعثات التبشيرية نحو سائر أنحاء العالم وفيها أطلق على الحواريين لأول مرة في العالم اسم مسيحيين ( والمسيح كلمة تعني في العهد القديم من مسح بالدهن المقدس وهي مشتقة على الأرجح من الكلمة الآرامية السريانية نقحرة وتعني مشيحا).

وفيها أقيمت أول كنيسة أممية في العالم وفيها سمي القديس بطرس أسقفا واتخذها مقرا لكرسيه الرسولي وإليه يعود الفضل عالميا في إرساء قواعد المسيحية ونشر تعاليم الانجيل والسيد المسيح والمتمثل جوهرها بفضيلة واحدة جامعة هي فضيلة المحبة و التسامح، فالمحبة هي اساس كل شئ لأنها مصدر كل الفضائل. وفي أنطاكية سمي قسطنطين الأكبر أول امبراطور مسيحي في العالم وفيها أنشأ أشهر الكنائس في العالم المسيحي الكنيسة الكبرى “البيت الذهبي” وبفضل أنطاكية أصبحت المسيحية أهم دعائم الإمبراطورية الرومانية وفيها ظهر آباء الكنيسة وظهر قديسي الأعمدة للمرة الأولى في العالم. وكانت أنطاكية بتنوعها الاثني والقومي مثالا حيا للتعايش الديني السلمي والأخوي الذي تميزت به سورية في جميع مدنها عبر جميع العصور التاريخية وكانت أنطاكية خلال تطور المجتمع المسيحي حلقة وصل بين العالم الوثني القديم والعالم المسيحي الجديد ومسرحا لدعاة الغنطوسية وتعاليم بولص السميسطائي التي مهدت السبيل للأريوسية. وكان لأنطاكية أيضا دورا مركزيا في نقل التراث الاغريقي العلمي والأدبي والفلسفي والفني إلى العالم وقد كفل نظام الحكم الروماني لأنطاكية استمرار تقاليدها الاغريقية الهلنستية في المجالين الاجتماعي والثقافي.

وقبل انتشار المسيحية ازدهرت في أنطاكية الديانة والفلسفة الهلينية وعبادة زيوس وأبولو وبعل والالهة الأم. وكانت أنطاكية من معاقل الهلينية في الشرق ومن معاقل الوثنية التي تشير الدلائل على استمرار هذه العبادة وطقوسها حتى القرن السادس الميلادي وكانت تضم معابد شهيرة كما في دفنة. وكان يوجد جماعة كبيرة من اليهود في أنطاكية ومن بينهم ظهر المسيحيون الأوائل وأصبحت أنطاكية أهم مركز للمسيحية بعد القدس وخاصة بعد موت استفانوس الشهيد وهروب المسيحيون من القدس إلى أنطاكية وتبشيرهم بالإنجيل لليهود واليونانيين المقيمين هناك وكان نيقولاوس المنحدر من مدينة أنطاكية والذي اهتدى من الوثنية إلى اليهودية ثم صار شماسا مسيحيا في القدس من أوائل الشمامسة في العالم ومرورا بدمشق التي ظهر فيها القديس حنانيا أول مطران للمسيحية في العالم اتجه إلى أنطاكية تلاميذ النبي عيسى عليه السلام منذ عام 34 م وكانت كنسية القدس قد أوفدت برنابا ليقود العمل التبشيري في أنطاكية ودعا بولس معه ليعاونه في الوعظ والتعليم وبدأت جهود برنابا وبولس بالتبشير للدين الجديد حوالي سنة 40م وأصبحت أنطاكية بذلك مركز الرسالة العالمي ونقطة الانطلاق للتبشير بين الأمم وفيها أسّس بطرس الرسول مع بولس الرسول الذي تنصر في دمشق، الكرسي الأنطاكي المقدّس ونشر فيها الرسول بطرس تعاليم الإنجيل (الإنجيل كلمة يونانية الأصل، تعني البشارة أو الخبر السعيد) ومن أنطاكية انطلق الانجيل إلى العالم (على الأرجح الأناجيل جميعا تعتمد على نسخة آرامية مفقودة والأناجيل الموجودة الآن، كتبت جميعا باليونانية العامة ويلاحظ فى ترجمتها أنها تعتمد على نصوص آرامية وتحافظ في نفس الوقت على ما فيها من الجناس وترادف المعاني والمفردات) وهي أول مدينة في العالم أطلق فيها على اتباع اليسوع عليه السلام اسم المسيحيين حوالي عام 42/43 للميلاد وكانوا قبل هذا التاريخ يلقَّبون بالناصريّين نسبة إلى الناصرة بلدة يسوع عليه السلام. وكان يرأس المسيحيون الأوائل في أنطاكية أسقف وهو أحد تلامذة المسيح أو أحد من انتدبهم التلامذة وتمثل أنطاكية أحد الكراسي الرسولية في المنطقة وتلقب طوائف السريان الأرثوذوكس والأرثوذوكس الشرقيون والسريان الكاثوليك والروم الكاثوليك والسريان الموارنة ب”بطريرك أنطاكية”.

أرسلت كنيسة أنطاكية الرسول بولس في ثلاث رحلات تبشيرية وفي أنطاكية أسَّس القديس بطرس الشخصية الرئيسية في التاريخ الباكر للمسيحية أول أسقفية وأصبح أول أساقفتها فهو أول من زار أنطاكية من الحواريين الاثني عشر وفي عام 45 م جلس بطرس الرسول كأوّل بطريرك على أنطاكية واستمرّ حتى العام 53م حين خلفه تلميذه أفوديوس وجعلها برنابا ومرقص وهم من تلامذة المسيح السبعين عليه السلام قاعدة انطلاق للتبشير في آسيا الصغرى وبلاد الاغريق وإيطاليا وفي عام 46 م حققت الطائفة المسيحية في أنطاكية قوة ونفوذ مكنها من إرسال المعونات المالية للمسيحيين في القدس وكانت مقراً للمبشر القديس بولس من عام 47 م إلى عام 55 م، وباتت مركز الصراعات اللاهوتية. وفي أنطاكية استخدم للمرة الأولى في العالم عبارة الكنيسة الجامعة فمع تغيب بطرس وبولس عن أنطاكية لدواعي التبشير، عين في كنيسة أنطاكية أسقفين هما: أفوديوس أسقفاً على المسيحيين من أصل وثني، وأغناطيوس أسقفاً على المسيحيين من أصل يهودي، ثم اتّحد الطرفان برباط الروح تحت رئاسة أغناطيوس النوراني بعد سنة 68م لذلك أطلق على كنيسة أنطاكية عبارة الكنيسة الجامعة. وتعتبر كنيسة أنطاكية أقدم الكنائس المسيحية وأشهرها بعد كنيسة القدس، وازدادت أهميتها عام 70 م بعد خراب كنيسة القدس على يد تيطس الروماني. وعندما تحدت تدمر سيطرة الرومان على سورية جرت المعركة الفاصلة على أرض أنطاكية وفيها قضي نهائيا على قوة تدمر ووقعت زنوبيا في الأسر.

وسجل عام 312م شهادة أكبر شهداء المسيحية في العالم شهرة وهو القسيس والعالم البارز لوقيانوس الأنطاكي والذي توفي تحت التعذيب والتنكيل وكان أحد المعلمين الأوائل وتميزت مؤلفاته بالضبط والايضاح وسهولة القراءة ووضوح المعنى ودقة التعبير بما لا يفسح مجالا للتأويل والتفسير وبفضل أعماله تقدمت دراسة اللاهوت في مدينة أنطاكية لتنافس مدرسة الإسكندرية في هذا الميدان فمدرسة أنطاكية اتبعت في تعاطيها مع الكتب المقدسة أسلوب التفسير البياني للنصوص وتأكيد معانيها الحرفية بعكس الأسلوب التأويلي الذي اعتمدته مدرسة الاسكندرية ولوقيانوس من أوائل من قام في العالم بتحقيق وتنقيح نص التوراة والذي اعتمد في بطريركية أنطاكية وبطريركية القسطنطينية وكانت هذه النسخة هي الأصل الذي نقلت عنه الطبعة الأولى من الكتاب المقدس. وهومن أوائل من ترجم في العالم الكتاب المقدس من العبرية إلى اليونانية وكان لاهتداء قسطنطين الأكبر (306-337م) وإصداره براءة ميلان عام 313م وتحرر الكنيسة من قيودها وبناءه لكنيسة أنطاكية الكبرى المثمنة الأضلاع وافتتاحه عصر المجالس الكنسية الكبرى التي تولت أمر التوجيه والإرشاد نصرا كبيرا للمسيحية ونقطة تحول جوهرية في تاريخ الإمبراطورية الرومانية وإيذانا بدخول أوروبة النصرانية مرحلة تاريخية جديدة أصبح فيها نظام الحكم الامبراطوري المسيحي يرتكز على أسس وجذور سياسية جديدة وبدأت الحياة الدينية تستمد مبادئها من الكتاب المقدس.

ونشأ في القرون الأولى للميلاد النظام الكنسي فسمي أسقف المدينة الرئيسة بالمتربوليت أي أسقف أم المدن. وفي القرن الرابع الميلادي اعتبرت كنيسة إنطاكية أهم كنائس المسيحية بعد روما والإسكندرية، وعن طريق المجامع الإقليمية والمسكونية ربطت الأسقفيات بالمطرانيات وحدّدت سلطة الكراسي الرسولية الكبرى المتساوية بالسلطة في أنطاكية والإسكندرية ورومية والقسطنطينية في مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول المنعقد عام 325م في قانونه السادس. وأطلق على أسقف كل منها في أواسط القرن الخامس لقب بطريرك ومعناه رئيس الآباء. وكانت أنطاكية أول مدينة في الامبراطورية الرومانية بنت كاتدرائية فخمة (بين 327-341م) مع قبة من الموزاييك.‏ وتبع كنيسة أنطاكية في القرن الخامس 153 أسقفا، وامتدّت بطريركيّتها من جبال طوروس حتى حدود مصر. ولذلك سُمّيت ببطريركية أنطاكية وسائر المشرق. وكانت ولاية البطريرك الإنطاكي تشمل أول الأمر، معظم الشرق الأوسط عدا مصر ووسط وغرب تركيا حاليًا، وفي فجر المسيحية كانت اللغة السريانية لغة أهل أنطاكية الأصليين ولغة اليهود المهاجرين إلى أنطاكية واللغة التي استخدمتها كنيسة أنطاكية في طقوسها الدينية، وفي إقامة خدمة أول قداس كتبه بالسريانية مار يعقوب.

وفي سنة 431م حرم مجمع أفسس تعاليم نسطور بطريرك القسطنطينية الذي رأى أن السيد المسيح هو أقنومان وطبيعتان، وتحزب له يوحنا بطريرك أنطاكية وعدد من أساقفة سورية، ومعظم أساتذة مدرسة الرها وتلامذتها، وانتشرت تعاليمه في بلاد المشرق ولم يسلم منها سوى تكريت وأرمينية، وألفوا كنيسة انسلخت عن الكرسي الأنطاكي سنة 498م وأقامت لها رئيساً أطلق على نفسه لقب (جاثليق) وكان مقره في سلوقية القريبة من المدائن ونقل مقره سنة 762م إلى بغداد وفي أوائل القرن الخامس عشر نُقل إلى القوش وسنة 1561م إلى أرمية. وفي أعقاب مجمع خلقيدونية عام 451م فصلت كنيسة القدس، بشكل إداري وبات رئيس أساقفتها هو بطريرك القدس وانقسمت الكراسي الرسولية الأربعة إلى قسمين ضم القسم الأول كرسي رومية وكرسي القسطنطينية وتكون القسم الثاني من كرسي أنطاكية وكرسي الإسكندرية واللذين ظلا متحدين بالإيمان حتى اليوم ولكل منهما رئاسته الخاصة واستقلاله التام ومنذ عهد مكسيموس وحتى سنة 512م اعتلى الكرسي الانطاكي بطاركة تبعوا عقيدة مجمع خلقيدونية وانقسم السريان من حيث العقيدة الدينية إلى قسمين، وانقسمت اللغة السريانية أيضاً من حيث لفظها وقلمها إلى قسمين يعرفان بالتقليدين الغربي “بلاد الشام الغربية” والشرقي “بلاد ما بين النهرين الشرقية والعراق وأذربيجان”. وقطع القسم الشرقي علاقته مع الكرسي الأنطاكي، باستثناء العراق. وبعد وفاة قسطنطين الأكبر عام 337م قسمت الإمبراطورية الرومانية من جديد واحتفظ قسطنطينوس بالشرق واتخذ من أنطاكية مقرا له وعاصمة لملكه ومركزا لقيادته. وتفتخر أنطاكية بالقديس سيميون ستوليتس الأكبر أول وأشهر قديسي الأعمدة في العالم. وبدءا من سنة 518م تبدأ سلسلة البطاركة البيزنطيين وهم (الروم الأرثوذكس) وكان أغلبهم سرياناً، وفيهم قسم من الجاليات اليونانية وظل مقر الكرسي الأنطاكي مدينة أنطاكية حتى سنة 518م، ثم نقل إلى أديرة ما بين النهرين ثم نقل في القرن الثالث عشر إلى دير الزعفران قرب ماردين في تركيا، واستقر سنة 1959م في دمشق.

حققت الحضارة الاغريقية المسيحية في أنطاكية أوج ازدهارها في عهد يوستينيانوس الأكبر (565-527م) حيث تم توحيد الكنيسة والدولة وكانت ثمرة الجهود المبذولة سابقا من قبل قسطنطين الرابع وثيودوسيوس الأكبر الذي جعل المسيحية الديانة الرسمية في الدولة وأبطل عبادة الأوثان وتأسست في مدينة أنطاكية مدرسة لاهوتية كبرى. ومن أنطاكية انتشرت المسيحية نحو الغرب ومن أنطاكية ينحدر أعظم قادة الكنيسة المسيحية كأمثال أغناطيوس أسقف أنطاكية الذي استشهد في روما، ويوحنا كرسستم “فم الذهب” الواعظ المسيحي الذي ذهب إلى القسطنطينية.

وفي القرن السابع الميلادي حدث خلاف بين أتباع المجمع الخلقيدوني في منطقة الكرسي الأنطاكي، بسبب ظهور تعاليم المشيئة الواحدة والمشيئتين في المسيح، وانفصل على أثرها الرهبان الموارنة في لبنان وأقاموا لهم بطريركية خاصة.

وانضم في القرن الثاني عشر الرهبان الموارنة في لبنان إلى الكرسي الروماني وسموا بطريركيتهم ببطريركية أنطاكية. وكانت أنطاكية خلال مراحل تطور المجتمع المسيحي بمثابة حلقة الاتصال بين العالم القديم والعالم الحديث.

وتحدث الجغرافي الادريسي (1166-1100م) في كتبه بشكل موسع عن أنطاكية وميناءها السويدية وازدهار الحركة التجارية فيه ودون معلومات قيمة عن الحج المسيحي في مدينة أنطاكية وقد احتاج الحجاج الأوربيون للموانئ الساحلية من أجل الوصول عن طريق أنطاكية إلى المدن الداخلية التي احتوت على المزارات الدينية المقدسة لدى المسيحيين ومازالت حتى الآن عاصمة للكنائس المسيحية الشرقية وأحد أهم المراكز الحضارية في العالم القديم للتبادل التجاري والثقافي بين الشرق والغرب وبعد احتلال الفرنجة لأنطاكية وتدمّيرها على يد المماليك بقيادة الظاهر بيبرس عام 1268م غادرها بطاركة المشرق وأقاموا في دمشق وانتقلت بطريركية الروم الأورثوذكس من أنطاكية إلى دمشق في غرّة القرن الرابع عشر الميلادي وفي عام 1344م نقل الكرسي الانطاكي المقدس إلى مدينة دمشق.

ومنذ عام 1534م وإلى يومنا هذا لا تزال كل كراسي أنطاكية الأسقفية بيد اليونانيين. وفي أوائل القرن السابع عشر تشعبت البطريركية السريانية الأنطاكية، وخرجت عنها في حلب فئة بتحريض الرهبان الكبوشيين وبمساعدة قنصل فرنسا، وقصدوا مطراناً مارونياً سنة 1657م فرسم لهم القس أندراوس اخيجان الأرمني المارديني الأصل أسقفاً نادوا به بطريركاً بعدئذ، وبه تبتدئ سلسلة بطاركة السريان الكاثوليك. وفي أوائل القرن الثامن عشر حدث خلاف آخر في صفوف الروم الأرثوذكس أدى إلى ترك بعضهم بطريركيتهم وأتباعهم الكرسي الروماني وأقاموا لهم بطريركية خاصة دعوها ببطريركية أنطاكية وأطلقوا على أنفسهم اسم الروم الكاثوليك. وبعد موت البطريرك طاناس عام 1724م ينتخب في أنطاكية منذ ذلك التاريخ وإلى الآن بطريركيان أحدهما أرثوذكسي والآخر كاثوليكي ويعيش في مدينة أنطاكية اليوم طائفة الروم الأنطاكيون وهم مسيحيون عرب ومن أقدم الجماعات المسيحية في العالم.

تمتلك أنطاكية ارثا حضاريا وثقافيا اسلاميا كبيرا فهي تمتاز بطابعها العمراني الإسلامي الشرقي والذي يعكس تطور فن العمارة العربية الإسلامية عبر العصور المختلفة ولأنطاكية أهمية وقدسية كبيرة لدى مسلمي العالم ولقد أجمع المفسرون والباحثون في المذاهب والأديان بجامعة الأزهر بمصر على أن القرية المقصودة في سورة يس “الآيات 20-27” هي مدينة أنطاكية التي سكنت زمن النبي عيسى عليه السلام من قبل أقوام يعبدون الأصنام ويؤمنون بالتطير فأَرسَل إليهم النبي عيسى عليه السلام اثنين من الحواريين المقربين له ليهديهم إلى الصراط المستقيم.

وتؤكد آيات القرآن الكريم على مكانة المسيح المرموقة وهو النبي الصافي والنقي والطاهر والمعصوم يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه، من الشر والشيطان والعقوبة والمبارك في أي زمان ومكان بفضل تعليم الخير والدعوة إليه، والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله، فكل من جالسه، أو اجتمع به، نالته بركته. وهو الذي بُعِثَ آيةً للناس ورحمة من الله. وفي سورة مريم 33 نقرأ {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَييَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}.

كما توثق آيات القرآن اصطفاء الله عز وجل لمريم بنت عمران المنحدرة من سلالة النبي داوود عليه السلام على نساء العالمين وتنشئتها نشأةً حسنة وإنباتها نباتا حسنا، ووصفها بالصديقة لكمال إخلاصها وانقيادها لله عزل وجل ظاهرا وباطنا، وتعبدها بطاعته في كل أحوالها، ولتصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبر به وتصديقها بوعد الله تعالى وهو ميثاق الإيمان. يقول الله تعالى في سورة آل عمران 42: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}. والمراد بالاصطفاء الأول قبولها محرّرة لخدمة بيت اللَّه، وكان ذلك خاصا بالرجال، أما الاصطفاء الثاني فلولادتها نبيا دون أن يمسها بشر.

ورد اسم المسيح في القرآن الكريم، باسم عيسى عليه السلام خمسا وعشرين مرة، وذكر اسم أمه عليها السلام أربعا وثلاثين مرة، ثلاثا وعشرين مرة مقرونة باسم عيسى ابن مريم، وإحدى عشر مرة مجردة عن عيسى عليه السلام. ونجد في القرآن الكريم الذي فصل في نشأة المسيح وميلاده كل ما يخص حياة عيسى ابن مريم بالكامل، فقد ذكرت أسرته من ناحية أمه عن جده وجدته، وبين القرآن عظمة هذه الأسرة وصلاحها تقواها وعبادتها لله، وتحدث عن ولادة مريم عليها السلام، ومن ثم نشأتها نشأة الطهر والعفاف والعبادة والتبتل، ففي القرآن نتعرف على الأحوال التي اعترت امرأة عمران بمريم البتول عند الحمل، وولادتها وتربيتها، وحالة التقوى والتنسك التي طبعت حياتها منذ كانت في بطن أمها، وكيف اصطفاها الله لأمر جليل، إذ نذرت أمها وهي حامل بها أن تجعل الحمل الذي يتمخض في أحشائها محررا خالصا لوجه الله تعالى، منقطعا لعبادته وخدمة بيت المقدس، وكيف استمرت في الوفاء بنذرها بعد الولادة وتوجهها بالدعاء إلى الله تعالى أن يحفظها وذريتها من الشيطان الرجيم، وكيف تقبلها ربها بقول حسن، وأنبتها نباتا حسنا، وكيف هيأ لها من يقوم بشأنها ويتم بصلاحها فكفلها زكريا، وعاشت مريم البتول في شبابها عند زكريا واقتبست منه العلم والمعرفة والعبادة والذكر والخُلُق، وكيف كانت مريم البتول سببا في دعاء زكريا لربه بالذرية الصالحة لما رأى أفضال الله وكراماته على مريم، خاصة لما ذكرته أن الرزق يأتيها من الله، وكيف استجاب الله تعالى لدعاء زكريا عليه السلام ورزقه يحيى على الرغم من أن امرأته كانت عاقرا. فجاءت ولادة المسيح المعجزة الكبرى عقب معجزة ولادة يحيى من أم عاقر وإكرام الله تعالى لمريم عليها السلام جزاء لعملها الفاضل الحسن وعفتها، وسعيها الكامل فأعاضها الله بعفتها، ولدا من آيات الله، ورسولا من رسله ورزقها غلاما بدون نطفة أب كما هو المألوف في حياة البشر غير آدم عليه السلام، حيث أرسل لها جبريل عليه السلام ليبشرها، ولينفخ فيها فتحمل بعيسى عليه السلام، ورعاية الله لها أثناء حملها، ورعايته لها أثناء ولادتها به، ثم حديثها مع بني إسرائيل واستنكارهم الولد، وكلام عيسى في المهد لتبرئة أمه من تهمة الزنى.

ويبين الله تعالى في سورة مريم تفاصيل كيفية حمل مريم البتول بعيسى عليه السلام ومولده بدقة متناهية، وأوصاف محكمة للمكان والحالة النفسية التي مرت بها مريم عليها السلام، ابتداء من أخذها للمكان البعيد وجيء المخاض وآلامها عند الوضع وتمنيها الموت ومناداة ابنها لها من تحتها، وما صاحب ذلك من نفحات وبركات، كما نجد تفاصيل أدلة براءة مريم عليه السلام من الاتهام بالزنى وذلك بذكر صومها وحديث المسيح في المهد ونطقه ببراءة أمه وكونه عبدا لله تعالى، بقوله سبحانه: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إنني أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إنما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ْ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا }}( مريم:16-22) ، وأوضح في آية أخرى أن جبريل عليه السلام نفخ في مريم فكان الحمل بإذن الله ، قال تعالى :{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَددَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }} (التحريم: 12}

ويتحدث القرآن عن معجزات المسيح الموجبة للإيقان والداعية للإيمان في الخلق في جعل الجماد حيوانا، واحياء الموتى وابراء الاكمه (من ولد أعمى) والأبرص (البرص مرض خطير يصعب شفاؤه) بإذن الله والإخبار بالأمور الغيبية بإذن الله. يقول الله تعالى في كتابه العزيز {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِي} سورة المائدة 110. ” وَرَسُولًا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُوونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ” سورة آل عمران 49

ومعجزة إنزال المائدة من السماء ففي سورة المائدة 5 :112-114 نقرأ : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ا بْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُننَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ ا تَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَاِئدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَّوَلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}

ومعجزة كلام المسيح في المهد أي النطق عند الولادة للدعوة إلى الله وإثبات عفة وطهارة مريم عليها السلام من تهمة الزنا ويقول الله تعالى في سورة مريم 29-33 {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا }” وفي سورة المائدة نقرأ قوله تعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أيدتك بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَههْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}

ويقول سبحانه في سورة آل عمران 45: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ}

وتؤكد الأوابد الأثرية المنتشرة في مختلف أرجاء سورية من كاتدرائيات وأديرة وكنائس فضلا عن آلاف القطع الأثرية والرسومات الجدارية المكتشفة في تلك المواقع أن سورية كانت محطة رئيسية في انتشار الديانة المسيحية وأفكار السلام والتسامح الديني علما أن مصطلح كنيسة ظهر منذ صدور مرسوم ميلانو عام 313م.

ففي سورية اكتشف على سبيل المثال واحدة من أقدم كنائس العالم وأهمها هي كنيسة أم الزنار كاتدرائية السيدة العذراء في حمص في منطقة الحميدية أشهر كنائس السريان الأرثوذكس بنيت سنة 59 م بشكل قبو تحت الأرض وكانت تتم فيها العبادة سرا بإشراف إيليا أحد تلاميذ المسيح السبعين خشية من بطش الحكم الروماني الوثني وبعد صدور مرسوم ميلانو عام 313م بدأ تشييد كنيسة كبيرة فوق مكان العبادة القديم المحفور تحت الأرض استخدم في بنائها الحجر البازلتي الأسود.

وفي القرن 6-7 م شيد في الكنيسة عمود الجرس وسميت أم الزنار لوجود زنار ثوب مريم العذراء عليها السلام (البالغ طوله 74 سم وعرضه 5 سم وسماكته 2ملم ولونه بيج فاتح مصنوع من خيوط صوفية طولانية في الداخل ونسجت عليها خيوط حريرية من الذهب وقد تآكل من أطرافه) محفوظا فيها ضمن جرن بيزنطي بازلتي للتقديس مغطى بصفيحة نحاسية مدورة وموضوع في وسط المذبح وثم في عام 1953م خلال حبرية البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم تم اخراج الزنار من وسط المذبح وعرضه في مزار صغير مجاور للكنيسة.

وتمتاز كنيسة أم الزنار بوجود قناطر حجرية موجودة تحت الكنيسة الحالية رممت عام 1852 م على يد المطران يوليوس بطرس ثم رممت في عام 1910م في عهد السلطان العثماني محمد الخامس وسعت الكنيسة وأضيف إليها جناحا جديدا عام 1954 على يد البطريرك أفرام الأول برصوم.

ومن أهم ما اكتشف في الكنيسة مجموعة مخطوطات مؤلفة من 46 رسالة مدونة بالكرشونية (لغة سريانية مكتوبة بأحرف عربية) تؤرخ بعام 1852م موجهة من أهالي أبرشية حمص إلى أبناء أبرشية ماردين ورقيم حجري كتب عليه بالكرشوني عثر عليه بعد الكشف عن المائدة المقدسة.

وتم اكتشاف أقدم كنيسة منزلية في العالم في سورية في موقع دورا أوربوس مع حوض مخصص للعماد تؤرخ بحوالي 232م كما اكتشف في نفس الموقع أقدم رسم جداري في العالم يصور السيد المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام ويصور الرسم معجزة شفاء المقعد وهو محفوظ حاليا في جامعة يالي في نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية. فضلا عن قطعة نادرة عالميا من مخطوط خطه بالكتابة اليونانية تاتانيوس السوري مؤسس فرقة المتزهدين التي تصنف كواحدة من سبعة مذاهب نسكية مسيحية.

ومن المكتشفات الهامة كنيسة القديس يوحنا المعمدان في دمشق والتي شيدت من قبل البيزنطيين المسيحيين في أواخر القرن الرابع الميلادي على أنقاض معبد روماني مخصص لعبادة الإله جوبيتير مؤرخ في القرن الثالث الميلادي كان قد شيد أيضا على أنقاض معبد آرامي أقدم مؤرخ بمطلع الألف الأول قبل الميلاد خصص لعبادة الإله حدد اله الشمس والرعد ففي عام 391 ميلادية، أقيمت في المنطقة الغربية الشمالية من مكان معبد “جوبتير” كنيسة “يوحنا المعمدان”، وتحول المعبد إلى كاتدرائية بأمر من الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الأول (379-395م)، ويقال إن رأس النبي يحيى، أو يوحنا المعمدان، مدفونة هناك وعقب فتح المسلمين لدمشق في عصر الخلافة الراشدة عام 634م، ثم قيام الدولة الأموية عام 662م، قسّمت كاتدرائية “يوحنا المعمدان” إلى قسم شرقي خُصص للمسلمين وقسم غربي خُصص للمسيحيين، وقد بُني في القسم الشرقي المخصص للمسلمين في جزئه الجنوبي الشرقي غرفة صلاة، صلى فيها الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، وكان يدخل إليها من الباب القبلي الروماني. وشهد الموقع الصلاتين الإسلامية والمسيحية كرمز للسلام والتعايش السلمي والعيش المشترك وحرية العقيدة. وفي عام 705 م حول الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الكنيسة إلى مسجد (الجامع الأموي الكبير بدمشق) مقابل منح المسيحيين كنيسة “حنانيا”. وبقي من آثار كنيسة يوحنا المعمدان جرن معمودية رخامي موجود في الجهة الشمالية الشرقية داخل المسجد ونص كتابي منقوش بالأبجدية اليونانية على يسار البوابة الجنوبية المواجهة لسوق الصاغة وصورة لوجه السيد المسيح وعلى رأسه إكليل شوك ومدفن رأس يوحنا المعمدان النبي يحيى الذي قام بتعميد السيد المسيح في نهر الشريعة قديما نهر الأردن ونفق قديم يربط بين كنيسة القديس يوحنا وكنيسة القديس حنانيا شمال باب الشرقي.

وتعتبر كنيسة حنانيا في دمشق من أقدم الكنائس في العالم ويعود تاريخ إنشاءها للحقبة الرومانية على أنقاض معبد روماني ويقدر عمره بحوالي 2000 سنة. وتقع الكنيسة القديمة تحت الأرض ينزل إليها بدرج. تعمد في هذه الكنيسة بولس الرسول على يد القديس حنانيا ورممت أيام الدولة الأموية 700-712 م ثم أعيد ترميمها سنة 1815م.

ويعود تاريخ بناء الكاتدرائية المريمية كنيسة السيدة مريم في دمشق مقر بطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس إلى بداية انتشار المسيحية في دمشق خلال القرون الأولى للميلاد بعد اعتراف الإمبراطورية البيزنطية لرعاياها في عهد الإمبراطور قسطنطين الأول بحرية العبادة وبعد الفتح الإسلامي لدمشق أغلقت الكنيسة ثم أعادها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عام 706 م إلى الأرثوذكسيين مقابل أخذه لكاتدرائية يوحنا المعمدان النبي يحيى والتي حولها فيما بعد إلى الجامع الأموي وأعيد بناء كنيسة السيدة مريم في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز وتعرضت للحرق والتدمير وإعادة الترميم في العصور اللاحقة. وتتألف الكاتدرائية حاليا من كنيسة السيدة مريم يعود تاريخ بناؤها إلى أواخر القرن الرابع الميلادي أثناء حكم الإمبراطور أرخاديوس قيصر وكنيسة مار تقلا وكنيسة القديسة كاترين وكنيسة القديسين كبريانوس ويوستينا وكنيسة القديس نيقولاوس وجرى ضم هذه الكنائس بعد ترميم الكنيسة المريمية اضافة الى أقبية تحت بناء الكنيسة وبرج أو قبة الجرس بني زمن البطريرك إسبريدون 1891-1898م.

ويوجد في دمشق كنيسة الصليب المقدس التي أقيمت في موقع دير الصليب المقدس الذي يعود إلى القرون المسيحية الأولى وبنيت الكنيسة عام 1930 على شكل الصليب حيث لها باب رئيس من جهة الغرب إضافة إلى باب يميني وآخر يساري كما يوجد أهم كاتدرائية أثرية في منطقة الشرق الأوسط هي كاتدرائية القديس سمعان العمودي المولود عام 392 م والواقعة على بعد 60 كم شمال غرب حلب والمؤلفة من أربع كنائس ايوانية متصالبة تنفتح على ساحة مثمنة الزوايا تعلو بها قبة يتوسطها بقايا عمود عاش على قمته القديس سمعان ما يقارب 39 سنة حتى مماته سنة 459 م حياة تقشف بالإضافة إلى دير للرهبان.

وتوجد ايضا كاتدرائية القديسين قسطنطين وهيلانة في يبرود التي سميت بذلك نسبة إلى الإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير الذي سمح بحرية العبادة الدينية بفضل إقناع أمه القديسة هيلانة له بأهمية التسامح الديني شيدت كاتدرائية القديسين قسطنطين وهيلانة سنة 331 م على أنقاض معبد روماني وثني خصص لعبادة جوبيتير كبير آلهة الرومان وعلى أنقاض معبد آرامي أقدم مؤرخ بمطلع الألف الأول ومخصص لعبادة إله الشمس.

ومن الكنائس المهمة في سورية كنيسة القديسة بربارة في شرق معلولا القديمة وكانت في العصر الروماني معبدا وثنيا لإله الشمس تمتاز ببوابة أثرية مقوسة وأيقونات كبيرة تصور القديس يوحنا المعمدان و النبي يسوع المسيح والقديسات بربارة وتقلا, و ثلاث ايقونات كبيرة تصور مشاهد الابتهال فضلا عن ايقونات صغيرة تصور الرسل أو حواري المسيح الاثني عشر أندراوسو أول رسول دعاه يسوع وكان قبل ذلك تلميذ ليوحنا المعمدان وسمعان بطرس وفيلبس ويعقوب بن زبدي ويوحنا بن زبدي وبرثولماوس أو نثنائيل ويعقوب بن حلفي ويهوذا لباوس الملقب تداوس حيث ذكر اسمه يهوذا بن حلفى في بعض آيات الإنجيل ومتى العشار وتوما وسمعان القانوني ويهوذا الأسخريوطي.

يضاف إلى الاثار المسيحية في سورية كنيسة ودير مارتقلا في معلولا المشيدة على بنية صخرية والمطلة من جوف كهف صخري عاشت فيه القديسة تقلا وهي ابنة أحد الامراء السلوقيين وتلميذة القديس بولس الرسول كما يضم الدير أيضا رفات القديسة تقلا كما يوجد مقام القديس سابا في معلولا وكان بالأصل معبدا وثنيا رومانيا يمتاز ببرج ناقوسه معومد ومغطى بسقف جملوني قرميدي أحمر مربع المقطع منفذ بأسلوب سقوف الباغودا في شرق آسيا وعثر فيه على ايقونات تصور مريم العذراء تحمل طفلها يسوع.

وكنيسة القديس سيرجيوس سركيس في معلولا المبنية على أنقاض معبد وثني حيث تمتاز بمذبح دائري يؤكد وجوده أن تاريخ بناء الكنيسة يعود إلى ما قبل انعقاد مجمع نيقية عام 325 م الذي منع إقامة المذابح الدائرية. كما تمتاز بامتلاكها لعدد من الأيقونات موجودة على طول الممر المؤدي إلى المذبح أهمها أيقونة تصور السيدة العذراء وأخرى تصور القديسين سرجيوس وباخوس علما أن القديس سيرجيوس سركيس كان جندي روماني قتل في عهد الملك مكسيمانوس عام 297 م بسبب اعتناقه للديانة المسيحية فيما يضم دير صيدنايا المبني بحدود 547 م أيقونة السيدة العذراء الشاغورة وهي إحدى النسخ الأصلية للأيقونات الأربع التي رسمها بيده القديس وكاتب الإنجيل لوقا الرسول.

ومع ذلك يبقى لكنيسة قلب اللوزة شمال غرب مدينة إدلب في جبل باريشا أهمية ومزايا خاصة جعلت منها أسطورة الأوابد الأثرية المسيحية في العالم فهي أقدم كنيسة بنيت في سورية في العصر البيزنطي والأولى معماريا وفق نظام التخطيط البازيليكي الذي يبدأ بالحنية التي تأخذ الشكل نصف دائري وهيكل الكنيسة يتخذ شكل المستطيل وثاني أقدم كنيسة مكتشفة في نفس المنطقة بعد كنيسة قرق- كرك- بيزة الأقدم والمبنية سنة 361 م وينسب تاريخ بناء كنيسة قلب اللوزة على الأرجح إلى القرن الخامس الميلادي في الفترة الواقعة ما بين سنة 460-480 م وبنيت الكنيسة بطول 65ر25 مترا وعرض 15 مترا.

يتبع

اخبار الاتحاد