د. عبد اللطيف عمران
يبدو أن ما يجري اليوم في أوكرانيا – على أهميّته وخطورته – لن يكون أكثر من محطة من المحطات العديدة والمتنوعة، اللازمة والضرورية لصياغة نظام دولي آخر لم يعد هناك من من حلّ دون إنجازه بعدما تأكد بوضوح الحاجة الملحّة للإنسانية إلى كبح جماح المركزية الغربية بنزوعها الطامح إلى الهيمنة المستدامة للقطبية الأحادية.
فلم يعد هناك من سبيل إلا مواجهة هذا النزوع، والعمل على إحباط أطماعه الرامية إلى تهميش وإقصاء، بل الإجهاز على كل من يقول: لا، أو كفى. فلم يكتفِ الغرب بانهيار منظومة الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، ولا بما جرى في البلقان، أو في العالم الإسلامي، والوطن العربي، ولا بضبط وتوظيف مسار التطرّف والإرهاب الجوّال والعابر للحدود الوطنية.
في هذا السياق كانت مبادرة فلاسفة المحافظين الجدد إلى صياغة أسس فلسفية، ونظريات لاستراتيجية هيمنة القطب الواحد، والعدو هو الآخر أيّاً كان (من ليس معنا فهو ضدنا) فتقدمت طروحات: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، وصدام الحضارات، و(الربيع العربي) تحت عنوان: (لا بد من استسلام الخاسر لخسارته)، وبدأ مع مطلع تسعينيات القرن الماضي ما سمّي يومها بالنظام العالمي الجديد في معمعان: المحافظون الجدد في أمريكا – المؤرخون الجدد في الكيان الصهيوني – النازيون الجدد في أوروبا وأوكرانيا تحديداً، الإرهابيون الجدد الجوّالون في الفنادق والمطارات والميدان على أن يكونوا حصراً من المسلمين…
ذلك هو النظام أحادي القطبية الذي وُلد على أنقاض انهيار أوروبا الشرقية وحقبة التوازن الدولي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وها هو هذا النظام يتعرض لمحكّ شديد الوطأة، نأمل بل يجب أن نعمل بتضافر الجهود وتكامل المواقف والخطط على الإجهاز عليه نظراً إلى ما انطوى عليه من مآس وفوضى ودمار ودماء لم تنتهِ بعد في الشرق الجيو سياسي.
وهذا واضح جرّاء الأزمة التي افتعلها الغرب وأضرم نيرانها المتأججة بين روسيا وأوكرانيا، ولهذا أقدمت القيادة الروسية على ما قامت به وهي تدرك ألاعيب الغرب والولايات المتحدة تحديداً جراء مخاطر التهرب من تلبية مطالبها المحقّة في الضمانات الأمنية، ومخاطر توسع الناتو، وتغذية نزوع النازيين الجدد في السلطة الأوكرانية الذين لم يقفوا عند عدم الالتزام بتنفيذ بنود الاتفاقيات الموقّعة والمصدّقة من برلمان كل من روسيا وأوكرانيا، بل تابعوا العمل لتكون بلادهم خنجراً مسموماً ودامياً في خاصرة روسيا من خلال مطالبة الغرب بالانضمام إلى الناتو، ومن خلال اضطهاد مواطني إقليم دونباس ثانية، وثالثاً العمل على تصنيع ونشر أسلحة الدمار الشامل النووية والبيولوجية في مكامن خاصّة ومخفيّة تحت الأرض بالتنسيق والدعم من الغرب، إضافة إلى تأجيج العصبيات القومية المتطرّفة والعنصرية رابعاً.
لذلك لم يبقَ أي مجال أمام القيادة الروسية لتجنّب العملية العسكرية الهادفة بالضرورة وبالواجب أيضاً إلى ردع سلوك سلطات كييف المنخرطة في مشروع معادٍ ليس لروسيا فحسب بل للحلفاء والأصدقاء، ولشعوب وحقوق، وأمن واستقرار الشرق الجيوسياسي الماضي في البحث عن نظام دولي جديد قائم على متطلبات الاستقرار والسلام والأمن الإقليمي والدولي، والذي صارت سلطات كييف أكبر مهدد لهذه المتطلبات، سلطات بالحق والحقيقة عميلة ومأجورة تنفّذ سياسات خطيرة ومعادية بالوكالة.
فلم تصل سلطات كييف إلى ما وصلت إليه من فراغ، ولكن بعد الدعم الغربي الهائج بالسلاح، وبالعقوبات العديدة والمتنوعة ضد روسيا، واستقطاب هذه السلطات متطوعين في الكتائب النازيّة واليمين المتطرّف من الأجانب في أوروبا ومن التكفيريين المدجّجين والمجهّزين على الحدود السورية العراقية التركية، في وقت يتم فيه إحياء الفاشيّة والنازيّة الجديدة في عدد من بلدان أوروبا والولايات المتحدة، وهذا ما لا تنكره بعض وسائل الإعلام الغربية، ولا منظمة العفو الدولية، وكذلك هيومن رايتس ووتش، وفريدوم هاوس… إلخ. في وقت يرتفع فيه اليوم بشكل لافت ومتصاعد الخطاب الشوفيني الداعم لأوكرانيا والناتج عن الأثر الواضح لتعاون الغرب مع السلوك الفاشي المنتشر في كثير من الديمقراطيات الليبرالية هناك.
أما نحن في سورية فإننا نقف بثقة الموقف الصحيح والواجب تجاه قضيتنا وحقوقنا وحلفائنا ضد العدوان على شعبنا ووطننا مدركين بدقة الأهمية التاريخيّة والواقعيّة والمستقبليّة لحديث السيد الرئيس بشار الأسد مع الرئيس بوتين:
(ما يجري اليوم هو تصحيح للتاريخ، وإعادة توازن إلى العالم حيث تأتي الهيستريا الغربية من أجل إبقاء التاريخ في المكان الخاطئ لصالح الفوضى، فروسيا اليوم لا تدافع عن نفسها فقط وإنما عن العالم . . .).