شهدت الصحافة الورقية خلال السنوات الماضية الكثير من التحديات التي غيبتها عن ساحة المنافسة الإعلامية، كان آخرها أزمة فيروس كورونا التي شلت حركة الطباعة في جميع الصحف المحلية وجعلتها تكتفي بإصدار النسخ الإلكترونية فقط، إضافة إلى ارتفاع تكاليف مستلزمات الطباعة وصعوبة التوزيع في العديد من المناطق.
فهل ترانا نشهد اليوم عصر اندثار الإعلام المطبوع؟ وهل من الممكن أن يسترد ألقه ويعود قريباً؟ وهل ستكون هذه العودة مجدية إعلامياً؟
هذا ما ناقشته ندوة «مستقبل الصحافة المطبوعة في سورية» التي عقدها اتحاد الصحفيين بالتعاون مع المركز الثقافي العربي في أبو رمانة بحضور عضو القيادة المركزية في حزب البعث العربي الاشتراكي د. مهدي دخل اللـه وعدد من المهتمين والإعلاميين، في ظل الغياب التام لوزارة الإعلام المعنية في فعالية من صلب اختصاصها وصاحبة القرار فيه. وقد تضمنت الندوة ورقتي عمل لرئيس تحرير جريدة «الوطن» وضاح عبد ربه والمدير السابق لمؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر زياد غصن، وأدارها رئيس تحرير صحيفة «تشرين» السابق محمد البيرق.
عقلية جديدة
بدايةً، قال الزميل وضاح عبد ربه: إننا أحببنا في هذه الندوة أن نعطي فكرة عن الإعلام المكتوب الذي ألغي في سورية فقط واستمر في كل دول العالم ولم يتوقف على الرغم من ظروف كورونا وغيرها، وأعتقد أن المشكلة في سورية اقتصادية أكثر مما هي سياسية أو إعلامية».
وأضاف: «منذ تسلم وزير الإعلام الدكتور بطرس حلاق كان أول بند على جدول أعماله إعادة الصحف الورقية إلى الطباعة، وقد مضى على ذلك ما يقارب السنة من دون أن تعود الصحف لعدة أسباب لا نعرفها، وعلى حسب معلوماتي هنالك مشكلة في توريد الورق إلى سورية، وجرت عدة مناقصات لم يشارك فيها أحد بسبب التمويل، لذلك أعيد وأؤكد أن المشكلة اقتصادية وهي برسم الحكومة وليست برسم الصحافة».
وأكد أن هناك سبباً كي لا يتخلى العالم عن الصحافة الورقية، وهي أنها تبقى وثيقة ممسوكة باليد، أما الصحافة الرقمية فبكل بساطة يمكن أن تُحذف معلوماتها بالخطأ أو يتم تغييرها وتعديلها، لذلك يجب إعادة الصحافة الورقية إلى سورية لتكون وثيقة متداولة تحفظ نسخ منها وتؤرشف، لأن الوثيقة هي الأهم في النهاية.
وبمعرض حديثه عن مستقبل هذه الصحافة شدد على أنها ستعود إلى سورية رغم كل الصعوبات، مشيراً إلى أنها يجب أن تكون صحيفة رأي وتحليل وليست صحيفة خبر.
ولفت إلى أن مشكلة الحصول على المعلومة هي مشكلة كل الصحفيين في سورية، والصحافة المكتوبة تعتمد أولاً وأخيراً على المعلومة.
ونوه إلى ضرورة تغيير الصحافة لتكون صناعة، خاصة أننا بحاجة إلى إعادة هذه العقلية التي تحترم الإعلام وتعطيه دوره الكامل، رغم أننا فقدنا هذا الموضوع في سورية نوعاً ما، لكن يجب أن يعود إذا أردنا أن نبني مستقبلاً للإعلام المطبوع.
وبيّن أن موضوع التمويل والدعم ليس للصحافة بل للصحفيين، فبالنظر على سبيل المثال إلى قرارات زيادة أسعار البنزين في السنة الأخيرة، نجد أن أي راتب لم يعد يكفي لتغطية نفقات تنقل الصحفي لإنجاز مهامه والبحث عن المعلومة أو لصنع مادة صحفية، لذلك نحن اليوم بحاجة إلى عقلية جديدة في إدارة الإعلام توفر استقلالية مادية للصحفي ورواتب للإعلاميين.
الحد الفاصل
أما الزميل زياد غصن فقدم عرضاً عن الصحافة الورقية في ظل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني وكيف بدأت هذه الصحافة تشهد على مستوى العالم تراجعاً بنسب التوزيع وقل جمهورها التقليدي.
وأشار إلى أن بعض الصحف المطبوعة تحولت إلى الإصدار الإلكتروني لسببين، هما منافسة الإلكتروني وارتفاع تكاليف الطباعة.
وقال: «العقد الأول من القرن الحالي كان العقد الذهبي للصحافة المطبوعة في سورية، وشهد تواجد صحف مطبوعة خاصة، بينما بدأت الصحف الرسمية تأخذ هامشاً أكبر من الحرية، وقد انتعش المطبوع نتيجة تغيير قانون المطبوعات ومحدودية التراخيص الممنوحة، كما أن منافسة الإلكتروني لم تكن ظاهرة أو واضحة، والصحف الرسمية كان لديها أعلى معدلات توزيع».
وتابع: «أما في مرحلة الحرب فسيطرة «السوشال ميديا» على اهتمامات الناس للحصول على الأخبار وخروج محافظات ومناطق عدة عن دائرة توزيع الصحف أسهم في تراجع دور المطبوع، إضافة إلى توقف معظم المطبوعات الخاصة عن الصدور لأسباب مختلفة جزء منها مالي نتيجة ارتفاع التكاليف والتضخم والعقوبات، وللأسف فإن الاهتمام الرسمي بـ«السوشال ميديا» والإعلام المرئي على حساب المطبوع كان واضحاً، وبالتالي أخفقت جميع المحاولات والجهود الفردية في تطوير المطبوع».
وأكد أن أزمة كورونا كانت الحد الفاصل بتوقف مؤقت لإصدار الصحف الورقية في الكثير من دول العالم والدول المجاورة كالأردن ولبنان لكنها عادت كلها، ونتيجة ارتفاع بدلات النقل والتأمين والمستلزمات الطباعية ارتفع سعر الورق، كما أن الحكومة استغلت أزمة كورونا لإيقاف الصحف المطبوعة منذ آذار 2020.
وشدد على أن ارتفاع تكاليف الطباعة كان عائقاً أساسياً بحسب رأي الحكومة، والحكومة هي من تتحمل مسؤولية تراجع نسب التوزيع لمجموعة أسباب جزء منها متعلق بهوامش الحرية المتاحة منذ بداية الحرب.
ولفت إلى أنه خلال عامي 2020 و2021 زادت تكاليف الطباعة ومستلزماتها من ورق وأحبار وفي عام 2019 كانت النسخة الواحدة من صحيفتي تشرين والثورة تكلف 15 ليرة وتباع بـ25 ليرة وعدد النسخ المطبوعة كان يزيد على 50 ألف نسخة، أي إن التكلفة اليومية كانت تصل إلى خمسة ملايين وسبعمئة ألف ليرة، في حين حالياً تكلفة إصدار صحيفة يومية من 12 صفحة تصل إلى 500 ليرة.
كما نوه بأن هناك مخزوناً من الورق موجوداً في مؤسسة الوحدة يؤمن طباعة جميع الصحف بما فيها «الوطن» لمدة عام كامل، وإذا استخدم هذا المخزون فستقل التكلفة لحدود 356 ليرة للصحيفة لكون المخزون قديماً.
وأكد ضرورة تفعيل مؤسسات الإعلام التقليدي لمواجهة «السوشال ميديا» ومعالجة حالة الفوضى بالعودة إلى الإعلام التقليدي وتقويته لأنه سيؤثر بشكل أو بأخر في ضخ المعلومات التي يتم تداولها في جميع وسائل الإعلام الجديدة.
وطالب بضرورة بناء مهارات العاملين في الحقل الإعلامي لأن الصحفي المدرب والمؤهل هو ابن المطبوع، إضافة إلى الحاجة إلى توفير مصادر جديدة للمعرفة والثقافة لشريحة واسعة من السوريين، والمساهمة في فتح قنوات للحوار والنقاش.
عودة واستفتاء
د. مهدي دخل اللـه قال إن دفاعنا عن الصحافة الورقية لا يعني أن الصحافة الإلكترونية سيئة ويجب التخلي عنها، فالصحافة الورقية مازالت موجودة بأرقى الدول حتى في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، وأنا أذكر أنه عندما ظهر التلفاز قالوا إن عصر السينما قد انتهى ولكن هذا لم يحدث، صحيح قل انتشارها إلا أنها مازالت حاضرة. وأضاف بأن الصحافة الورقية ضرورية وبما أنني المسؤول عن الإعلام في الحزب ونحن جهة استشارية ولسنا بجهة حاكمة، فإنني أؤكد بأن الإعلام الورقي سيعود فالاثنان يكملان بعضهما البعض.
وختم بأن الندوة يجب أن تخرج بنتيجة، مقترحاً على اتحاد الصحفيين رفع مذكرة للحكومة تتضمن نوعاً من استفتاء بضرورة عودة الصحف الورقية، وهذا واجبهم كنقابة ونحن كحزب نؤيدهم في هذا.
خط أحمر
وأخيراً قال الزميل محمد البيرق إن من حق الحكومة أن يكون لها منصاتها الإعلامية لكن ما نختلف عليه هو المهنية فقط لكننا لا نختلف مع الحكومة، وحتى يتحول الإعلام إلى إعلام دولة هناك بعض النقاط التي يجب الاتفاق عليها وليست مجرد كلمة فقط.
وتابع بأن مسألة قانون الإعلام والجريمة المعلوماتية مختلفان عن بعضهما البعض، ولا يوجد خط أحمر برأيي الشخصي في الإعلام وليس هناك سقف والخط الأحمر هو المهنية والسقف هو الوطنية، وعندما ألتزم بهاتين النقطتين أقدم مادة إعلامية جيدة.
وأكد أن الصحافة باقية ما بقي الإنسان والفكر والفن والنشاط الإنساني، والصحافة المطبوعة لم تمت ولكنها مجبرة على التأقلم مع أنماط إنتاج المواد الإعلامية وأنماط استهلاكها، وأعتقد أن كلمة السر هي تطوير المحتوى بالنسبة للصحافة، مشيراً إلى أن قرار إعادة الصحافة المطبوعة ليس بالقرار الذي يتخذ في هذه الجلسة ولكن من المفيد تبادل الأفكار.
مايا سلامي – صحيفة الوطن