بسام هاشم-جريدة البعث :-
سرعان ما تحوّلت “تركيا حزب العدالة والتنمية” إلى عبء استراتيجي على نفسها وعلى الشرق الأوسط وعلى السياسة العالمية في اللحظة التي قرّرت فيها أن تتحوّل إلى قوة إمبراطورية. ولربما تصادف ذلك مع بروز المطامح الرئاسية لزعيم الحزب، ومن ثم رئيس الوزراء، المدعو رجب طيب أردوغان، ولربما أيضاً مع تعثّره “بالصدفة” مع المشروع الأمريكي السعودي الإماراتي المصري “المباركي” الـ 14 آذاري اللبناني لقلب الأوضاع في سورية، كآخر معركة كان خطّط لخوضها معسكر “الاعتدال” بهدف القضاء على محور المقاومة. ودعت تركيا العثمانية الجديدة “تركيا الصفر مشاكل” على عجل، واستقلّت قطار المؤامرة على سورية في آخر عرباته. وطالما أن هناك من كان يدرك كيف يدغدغ لأردوغان طموحاته الشخصية، وكيف يضرب له على وتر جنون عظمته وحماقته، كان هناك أيضاً من عرف كيف يدفعه إلى أقصى حدود المقامرة مُنتزعاً منه كل أوراق تركيا في لعبة جهنمية لاتزال غير مضمونة النتائج.. هكذا باتت تركيا الأردوغانية الرافعة الجديدة لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يستهدف الدولة السورية بخياراتها الاستراتيجية في الممانعة ودعم المقاومة وبناء الشرق الجديد على أسس من استقلالية القرار الوطني وحق شعوب المنطقة في تقرير المصير؛ وهكذا، بالتوازي، باتت تركيا تتحوّل تدريجياً مع تطاول الوقت وتعدّد المطبّات وكثرة الحواجز إلى حصان سباق متعب يلهث وراء مجرد الحفاظ على تصنيفه.
بدد أردوغان خلال أشهر معدودة من بدء الحرب على سورية كل الرصيد الاستراتيجي الذي راكمته تركيا “المنتظرة” المتحوّلة عن التغريب: شَطب الاتفاق الأمني الموقّع بين البلدين، واعتبر اتفاقية الشراكة المؤسّسة للمنطقة الحرّة بفعل الملغاة، ليفتح الحدود المشتركة أمام موجات النزوح المبرمجة، وشحنات السلاح، وتدفقات الإرهاب العابر للحدود، بدلاً من الأشخاص والبضائع. خلال زمن قياسي أخذت تركيا الإخوانية تنوء تحت عبء اللجوء الذي بات يهدد بالتحوّل إلى مناقلات ديموغرافية جماعية تذكّر بتداعيات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحوّلت الشراكة الرسمية، الأمنية والاقتصادية، مع الإرهاب القاعدي والداعشي قطاعات واسعة من المجتمع التركي إلى حاضنة دافئة لإرهاصات حرب أهلية تلوح في الأفق.
فجأة وجد أردوغان نفسه وتركيا في قعر حفرة استراتيجية: الخليجيون يحرّضونه دون مقابل يذكر سوى الوعد بحفنة من الاستثمارات والسياح الوهابيين على شواطئ البحر الأسود من أصحاب الفتاوى التكفيرية (إحدى “جنان الله” كما قال الداعية العريفي وهو يبلل قدميه بالأمواج فيما كان يدعو الانتحاريين السعوديين لنصرة “أهلنا في الشام” من أصحاب المظلومية!)، والأمريكيون باتوا يضيقون ذرعاً بتقلباته واشتراطاته، والأوروبيون يرفضون دفع ثمن تلك “المغامرة السورية الفاشلة” عبر القبول بتسريع محادثات الانضمام للاتحاد، أو الخضوع لابتزاز تطبيق اتفاق الهجرة مقابل إعفاء الأتراك من تأشيرات الدخول، أما الحلف الأطلسي فقد خيّب آماله، بل وحطّم غروره، عندما رفض ولأكثر من مرة الانجرار وراء مشاريعه في المناطق الآمنة أو العازلة أو مناطق الحظر الجوي أو الحماية، لتشرع تركيا على أخطر الاحتمالات وأفدح المخاطر. وعندما تهيّأ للبعض أن الأحمق، الذي أصبح رئيساً بعد أن أشبع الدستور تعديلاً والانتخابات تلاعباً وتزويراً، بات ثمة ناضجة لإحداث الاستدارة، التي طالما انتظرها الروس والإيرانيون -المشهود لهم بكيفية إدارة اللعبة– لم يكن ذلك يحمل إلا معنى واحداً: أردوغان سياسي ضعيف، و”دولة العدالة والتنمية” دولة متهالكة، وتركيا العثمانية الجديدة -كما السلطنة مطلع القرن الماضي– رجل مريض ومعزول، ولكنه “مريض أوروبا وآسيا” مطلع القرن الحادي والعشرين، وآخر دليل على ذلك هو الانقلاب بحد ذاته.
أمس، وجد “لص حلب” الضعيف نفسه أمام ثلاثة “إنذارات” أولية تذكّر بالمريض القديم ذاته. طلبت إليه واشنطن أن يلتزم حيثيات الاتفاق غير المعلن مع ما يسمى “قوات الحماية الكردية”، وذكّرته موسكو بضرورة التقيّد بالقانون الدولي والتنسيق مع الحكومة السورية حول أي عملية في سورية، مؤكدة أنها تراقب عن كثب “العمليات العسكرية التركية” في شمال سورية، لافتة إلى أن الهدف الأهم والأكثر إلحاحاً في الوقت الراهن يتمثّل في “إزالة البؤرة الإرهابية في سورية”، أما طهران فطالبته بوقف هذه “العمليات” و”بسرعة” لتجنّب مزيد من تعقيد الوضع في المنطقة.
لم يعد أردوغان هو المعزول بصفته شخصية سياسية مغامرة من طراز يعود إلى حقبة بائدة.. لقد باتت تركيا في ظل استبداده وديكتاتوريته دولة مارقة معزولة تنطوي على مخاطر قوية على استقرارها الداخلي واستقرار جوارها الإقليمي والأمن العالمي وفق محدداته الراهنة.