جثة سياسية في انقره

بسام هاشم :جريدة البعث

سوف تتغاضى روسيا بوتين مرّات كثيرة أخرى قبل أن تقرّر أن أردوغان بات خارج الصلاحية. وسوف يتحمّل الكرملين المزيد من الكذب معطياً انطباعات إضافية بأنه يصدّق ترهات لا تنطلي على أحد، وسوف يوسّع في المجال أمام رئيس النظام التركي، الذي يزداد تخبطاً وإرباكاً، وقد يواصل التعامل معه بعقلية رجل استخبارات يعرف هدفه ويركّز على كيفية استدراج فريسته بدقة، غير أن المشكلة الأساسية تبقى أن أردوغان نفسه قد لا يتمكّن من الصمود إلى النهاية.
يخضع أردوغان لاختبار جهد قد لا يستطيع تحمّله طويلاً، ذلك أن إرثاً ثقيلاً من التورّط في الممارسات السرية، والانخراط الأحمق في الرهانات الخاطئة، سوف يلاحقه حتى آخر داعشي، وإلى أن تختفي جبهة النصرة ونور الدين الزنكي و”الجيش الحر” من خارطة الحسابات العثمانية الجديدة، وإلى أن تستقر الهندسة السياسية التي يحاول الطاغية فرضها بالقوة داخل تركيا. وهذا ما لن يحصل أبداً إلا من خلال مكارثية سياسية مضادة قد تفوق باتساعاتها وفظاعاتها وتوحُشها كل تصوّر، وقد تكلّف المجتمع التركي وحدته وترابطه، وقد تمزّقه شر ممزّق، بعد أن تعشّش بداعشية عثمانية قابلة للتفجّر في أية لحظة، وبعد أن جنح به الاستقطاب السياسي والمجتمعي إلى حدود المواجهة اليومية الصامتة على خطوط التماس المذهبية والعرقية والقومية والإيديولوجية والمؤسساتية، والتي ترتسم بحدة يوماً بعد يوم، وتتعمّق على نحو أشد وضوحاً مع كل تواتر الفشل في السياسة الخارجية، وإثر كل مغامرة تشريعية ودستورية تجهد عنوة في نقل قيم العلمانية والمدنية للجمهورية الأتاتوركية إلى ضفة الاستبداد المحافظ العائد بقوة على صهوة التوسعية العثمانية الحالمة بلملمة أطراف الإمبراطورية البائدة.
استوعبت موسكو حادثة إسقاط طائرتها الحربية والتمثيل بجثة قائدها.. تحمّلت تلك العنتريات التي كان أطلقها الرئيس التركي حيال عودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا.. التزمت كامل الهدوء لدى نشر بطاريات الباتريوت الأطلسية على مقربة من حدودها.. وأنصتت ببرودة أعصاب جليدية إلى تلك التصريحات المتحديّة التي كانت تطلق بين حين وآخر فيما يخص الدور الروسي في سورية.. وها هي تحوّل حادثة اغتيال سفيرها إلى فرصة سماح جديدة. لربما هي تتعامل وفق جدول أولويات في لحظة تغيير جوهري في موازين القوى الدولية. ولربما تضع نصب عينيها، على المدى البعيد، انتشال تركيا من المنظومة الأطلسية، وانتزاعها من فلك السياسة الأوروبية التقليدية -وتحت ضغط المصالح الاقتصادية والأمنية التركية- كهدفين استراتيجيين بعيدي المدى. ولربما تعمل تدريجياً على ترويض نزعة التدمير الأردوغانية الشوفينية، ولكن من المؤكد أن سياسات الرئيس التركي باتت تشكّل خطراً حتى على نفسه، وعلى مستقبل تركيا بحد ذاتها، وهو أفرغ الحياة السياسية التركية من الداخل إلى الحد الذي جعل منه دليلاً لا يمكن الاستغناء عنه في البحث عن مخرج للمتاهة الإرهابية التي أغرقته بمجاهيلها، بعد أن كان حفر مساراتها وسراديبها الدموية. ولعل جريمة اغتيال السفير أندريه كارلوف تقدّم ترجمة حرفية لهذه المعضلة، ففي أقل من 48 ساعة، توارت الاتهامات الجاهزة ضد جماعة غولن (“الكيان الموازي” حسب التسمية الرسمية) لكي تستوطن سريعاً في أحضان حرس الرئاسة. إذن، فأردوغان تحت الخطر، ولكن ممن؟! من الأجهزة الأمنية التي باتت تشكل “ميليشيا” خاصة بحزب العدالة والتنمية بعد تنحية الجيش جانباً، وفي إطار العملية المتواصلة لـ “تطهير” المؤسسة العسكرية وإعادة هيكلة موارد القوة المسلحة في “تركيا الإخوانية”، وهي الميليشيا السوداء التي نزلت إلى شوارع إسطنبول في تموز الماضي، ودون سابق إنذار، لكي تسحل الجنود الأتراك وتجز أعناقهم بسواطيرها فوق جسر المدينة، والتي سميت فيما بعد معارضة شعبية رافضة للانقلاب ومدافعة عن الشرعية الدستورية. أرسل أردوغان الجيش،
رمز العلمانية، في مغامرات خارج الحدود ليبقي الداخل مفتوحاً على استباحة شاملة للعصابات التكفيرية التي تولّت انجاز مشاريع الرئاسة المطلقة الصلاحية. شبكة مترامية الأطراف من الدواعش والطالبان والنصرة والزنكيين الأتراك، تحت أمرة عمليات “العدالة والتنمية” في مراكز المدن التركية وفي شمال سورية، شكّلت جيشاً انكشارياً “موازياً” مهمته الرئيسية إعادة هندسة المجتمع والسلطة على طريق بناء الدولة البوليسية، والانخراط كقاعدة خلفية إستراتيجية في التخطيط والدعم اللوجيستي للعمليات الإرهابية الخارجية. وعندما كان من الإجباري النزول عند حقائق الميدان السوري، وانسداد أفق الخيارات التقليدية المعمول بها في سورية، سلك أردوغان البراغماتي “الانتهازي” طريق الانعطافة المطلوبة، فيما بقي الوحش الإرهابي طليقاً في أزقة وشوارع وصالات عرض أنقرة.
هناك حاجة لإنقاذ أردوغان تماماً لأن تركيا قد تتشظّى وتتمزّق بفعل سياساته الإجرامية في كل لحظة. ولربما يدرك بوتين هذه الإشكالية بكل أبعادها، ولا بد أنه يعرف كامل هوية قاتل السفير كارلوف من خلال معرفته بـ “البيئة الرسمية الحاضنة”، التي مكّنته أخيراً من الوصول إلى صالة العرض والموكب الرئاسي ببطاقة عمل واحدة، ولكن أردوغان استحال حقيقة إلى جثة سياسية قد لا ينفع فيها الضرب، غير أنها قد تنفع للمشرحة!.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اخبار الاتحاد