د:بثينة شعبان
نسمع الكثير من الشكاوى على كلّ ما يحلّ فينا في هذا الزمن الصعب، وبالتأكيد أنه في بعض أوجهه الحياتية والمعيشية صعب جداً ويكاد يكون الأصعب الذي عشناه. ولكن إذا ما ترفعنا عن الآلام والجراح ونظرنا بعين المراقب لما يجري في عالم اليوم لوجدنا الكثير من الجمال المدهش الذي لم نكن نحلم أن نراه في حياتنا هذه. أجمل ما نعيشه هذه الأيام هو انكشاف المستور وظهور البلدان والأشخاص على حقيقتهم وأحياناً بتصرفات لا شعورية منهم. هذا الأمر يرسم ملامح زمن جديد سيكون مختلفاً جداً بهويته وتوجهاته وجوهره ومستقبله. والمفاجآت أحياناً في هذا المعنى تشكّل ظواهر جديرة بأن تدرس.
وآخر مفاجأة جميلة بهذا المنحى هي قرار الرئيس بوتين ألا يردّ على الإجراء الذي اتخذه أوباما بطرد خمسة وثلاثين دبلوماسي روسي وترحيلهم مع عائلاتهم خلال اثنين وسبعين ساعة، بهذا الوقت بالذات، وحرمان أطفالهم من التمتع بأجواء الأعياد، واتخاذ إجراءات عقابية بحق شخصيات روسية أخرى. من المعروف ومن المعتاد أن أي إجراء دبلوماسي من قبل أية دولة يتم الردّ عليه بالمثل من قبل الدولة المستهدفة، وهذا هو ما درجت الدول والحكومات على فعله منذ بدء قيام العلاقات الدبلوماسية بين الدول. ولكنّ الفهم العميق للرئيس فلاديمير بوتين لدوافع الرئيس أوباما باتخاذ هذا الإجراء ضد الدبلوماسية الروسية دفعه أن يكسر العرف والعادة والإجراء المتبع وألاّ يرد بالمثل على الرئيس أوباما، لا بل وأن يدعو الدبلوماسيين الأميركيين في موسكو إلى حفل في الكرملين. وبذلك فقد ردّ عليه رداً إنسانياً وحضارياً يحترم مشاعر عوائل الدبلوماسيين وأطفالهم في موسم الأعياد وهو رد انساني صاعق لم يكن يتوقعه أوباما، وقوّض له معظم الأهداف التي كان ينوي التوصل إليها من خلال هذا الإجراء. إذ أن الرئيس أوباما قد خالف أولاً البروتوكول الأمريكي الذي يقتضي ألا يقوم الرئيس بأي عمل قد يكبّل الإدارة القادمة في الثلاثين يوماً الأخيرة من حكمه، ولم يسبق أن قام رئيس أمريكي في الشهر الأخير من حكمه بمثل هذه الخطوة العدائية التي لا تحترم المشاعر الإنسانية للعوائل المبعدة. والتي قد تهدد العلاقات بين دولتين عظميين في العالم. ومن الواضح أن الرئيس أوباما وفريقه ما زالوا يزعمون أن الروس قد لعبوا دوراً في الانتخابات الأمريكية ضد المرشحة هيلاري كلينتون ولصالح الرئيس المنتخب ترامب. وهذا الزعم يشابه مزاعم أخرى مثل إنتاج العراق لأسلحة الدمار الشامل ومزاعمهم في سورية وليبيا واليمن، وهذا الزعم الأخير بحدّ ذاته هو دليل على ضعف الثقة بالنفس وبالنظام الانتخابي في البلد. إذ أين هي الإستثنائية الأميركية التي تحدث عنها الرئيس أوباما، إذا كانت روسيا قادرة أن تحدد نتائج الإنتخابات الأمريكية؟ وهناك رأي يقول أن الرئيس أوباما يردّ في هذا الإجراء على توصيف روسيا لإدارته بأنها مفككة وغير قادرة على اتخاذ قرار أو تنفيذ القرار المتخذ. وهنا أيضاً تسامى الرئيس بوتين فوق قرارات أوباما وإدارته فزاد من إعجاب العالم به واضاف إلى وهن وضعف إدارة أوباما في أذهان المتابعين والمهتمين.
القاعدة الأساسية التي يعمل وفقها الرئيس بوتين والتي خسرها الغرب منذ هجرها قبل زمن بعيد هي “احترام عقول الناس”، إذ أنّ خطوة بوتين بعدم الرّد تؤكّد ثقته بعقول الناس وحكمتهم، وأنهم سوف يفهمون دوافعه وأهدافه تماماً كما فهمها هو وهذا فعلاً ما حصل، وبدا أوباما، بعد كلّ هذا التمظهر بالقدرة على إزعاج الآخرين، بدا ضعيفاً ومهزوماً وارتدّ الإجراء عليه ضعفاً فوق ضعف، ومهانة ينطبق عليها القول: والطير يرقص مذبوحاً من الألم، كما ينطبق عليها قول المثل العربي: يداك أوكتا وفوك نفخ. وعدم احترام عقول الناس هو من أهم خصائص الإعلام الغربي الذي تكشّفت فبركاته الهوليودية اليوم للملأ داخل البلدان الغربية وخارجها، وعدم احترام عقول الناس هو مؤشر أكيد على انحدار اخلاقيات انظمة البلدان العربية بطريقة تهدد وجودها هي قبل أن تهددّ وجود الآخرين. فهاهو الإعلام الغربي يتلقى صفعة هائلة في انتخاب ترامب ضد كل استطلاعات الآراء المفبركة وضدّ كل ما روجت له الدعاية الغربية وهذا قد أفقد الإعلام الغربي الكثير من مصداقيته. إذ لا أعتقد أن عاقلاً متابعاً اليوم يمكن أن يؤمن بما يقرأه في الإعلام الغربي دون تدقيق أو تمحيص، ولا أعتقد أن هذه الوسائل الإعلامية التي امتهنت الترويج للأكاذيب والافتراءات والقصص المركبة في استوديوهات شركات الدعاية، لا أعتقد أنها تتمتع اليوم بمكانة في قلوب وعقول المتابعين، وما هو إلا وقت محدود قبل أن تفقد مصداقيتها بشكل نهائي. وفي هذا الصدد أسوق مثالاً صارخاً على انعدام المصداقية لمثل هذا الإعلام. لقد عبّر الإعلام والساسة الغربيون عن هستيريا غير مسبوقة بشأن الأهالي والمدنيين في شرق حلب حين كان الجيش العربي السوري يحكم ضرباته على الإرهابيين الوهابيين الممولين والمسلحين والمدربين من قبل الأنظمة الرجعية الخليجية والمخابرات الغربية وتباكت المنظمات “الإنسانية” المخترقة من المخابرات الغربية على الوضع التمويني والمعيشي لمن سوف يموتون جوعاً خلال أيام، وبعد تحرير حلب الشرقية تبين أن لدى الإرهابيين من السلاح والغذاء ما يكفيهم لسنوات وأن كلّ هذه الهستيريا هدفها إنقاذهم من الإندحار الأخير. أما اليوم فهاهم الإرهابيون يقطعون المياه، شريان الحياة الأساسي، عن ملايين الناس في دمشق وحلب ويتسببون بأكبر معاناة إنسانية عانى منها المدنيون منذ بداية هذه الحرب على سورية، ومع ذلك لم نقرأ كلمة واحدة في الإعالم الغربي أو المستعرب العميل للإرادة الغربية ولم نسمع منظمة “إنسانية” واحدة، أو سياسياً غربياً واحداً، يدين هذه الجريمة الشنيعة والتي هي من أبشع جرائم الحرب. هؤلاء السياسيون الغربيون لا يحترمون عقول الناس ويفكرون أنهم الأذكى والقوى، ولكن هذا الزمن الجميل الكاشف قد برهن مرة تلو أخرى أن الغرب لم يعد يمتلك فنون السياسة المثلى أو القيادة الحكيمة أبداً وأنه يعاني من انحدار رهيب في المثل والقيم والأخلاق والمصداقية، وأن الرئيس بوتين يخطّ تاريخاً جديداً بتعرية أساليب الغرب المنافقة والمخادعة وبإرساء أسس جميلة وجديدة لتشكّل عالم جديد عنوانه الشجاعة واحترام إرادة وعقول ومشاعر البشر فعلاً، لا قولاً ولا مداهنة.