بقلم الدكتور فايز عز الدين”جريدة الثورة السورية”
قيل في تاريخ الفكر السياسي: إن الفكرة تُدخل التاريخ، وغيابها يخرج البشر من كل تاريخ. وفي تطبيقات هذه المقولة نرى السياسة العالمية التي اتُبعت منذ بداية العقد الثاني من قرننا هذا أنها كانت سياسة المصالح المتنافرة، والخطوط المتشابكة التي لا يمكن أن يتفاعل بها أي عامل مع الآخر على طريق التبادل، والتعامل، والتكامل،
وشرعت السياسة العالمية خاصة في الغرب الليبرالي تنذر بالمزيد من الرغبة في الانقضاض على الأمم الأخرى بمفاهيم عولمية تارة، وسياسية تارة أخرى بمنظومة جديدة أتت تحت مسمّى رفض النظم القائمة، ولو وصل الناس إلى نظام اللا نظام، ودبّت الفوضى في كل دولة فالفوضى العالمية سبيل لتحقيق المزيد من غطرسة القوة العظمى أميركا، والمزيد من تجنيد حلفائها الأطلسيين في خطوط العدوان الدولي على المستهدفين شرق المتوسط، وشماله من العرب الذين مازالوا على فكرتهم التحررية من الاحتلال المباشر الصهيوني للأرض العربية، ومن مسانديه من الاستعمار القديم في الغرب الليبرالي المتصهين.
وما شكّل علامة فارقة في ملامح عصر سياسي عالمي غربي هو الدور الذي لعبه حراس البترودولار واشتروا به قادةً من الغرب لم يفكروا بتقدّم العالم، وبأخلاقية الوصول إلى المستقبل الذي يحمي الأمن والسلم الدوليين، ويدفع بالعقل الإنساني نحو مصافي النمو، والتطور، والإنسانية، ليخرج من أنفاق الظلام التاريخي، وقصور الفكر والرؤية؛ وكل الذي فكر به أولئك الحكام المؤقتون هو تحويل سياسة العالم إلى براغماتية فاقدة للعقل السياسي الواقعي، وإدخال الأمم المُتَقَصَّدة بحالات الاصطراع الداخلي على قواعد دينية، وطائفية، ومذهبية باعتبار أن هذا النوع من الاصطراع كان في التاريخ لعصر طويل ويمكن أن يُستحضر في عصرنا اليوم فالأدوات المطلوبة للبدء فيه موجودة، والخدمة مفروضة عليها، ولا تقوى على رفض الأوامر، ولا مناقشة أي استراتيجية حيث إنها مرتهنة، ومملوكة في بلدها، ووجودها، وسيادتها إذا كان لها سيادة.
وحين جاء القرار الغربي الصهيوني بالربيع، والثورات المزعومة رأى كلُّ فردٍ متابع، أو مجتمع أن الذي يحدث لم يأتِ على صورة ما أُعلن عنه، ثم كيف بدأت المرجعية الخارجية تفرض سياسة الداخل في كل وطن مستهدف، وظهرت مخططات إعادة تشكيل الدولة المستهدفة، ونسف الحالة الجيوتاريخية التي كانت عليها، وكُشف عن منظومة الانقسام المطلوب المؤدي إلى التقسيم والتقاسم، وأضحت الفدرلة هي الحل السياسي المنتظر لكل وطن فالوحدة الجغرافية، والثقافية، وقيم المواطنة على الأسس الديمقراطية لم تعد مقبولة في سياسة الخارج الاستعماري الذي يعيد هيكلة الدولة الوطنية، لكن على مقاس المشروع الصهيوني ووفق أهدافه التلمودية، والعجب العجيب في برهة سيطرة ميديا الربيع الإعلامية التضليلية أن معايير التقدم الإنساني، وأشكال التفكير الواقعي، الموضوعي قد غُيّبت تماماً ليصبح الأمر مرهوناً بما يتلاءم مع منظومة التخلف التاريخي إن كان في صيغة فهم الدين، والتدين، أو كان في فهم صيغة التقدم الحضاري والتنور فالمهم أن يتم تدمير الدول المستهدفة، ولو تمّت إزاحة العقل المجتمعي الإنساني عن مراميه التاريخية، وعن تطلعاته الرامية إلى المزيد من رفض التطرف الديني، والسياسي، ورفض العدوان، والاحتلال، واغتصاب حقوق الآخر.
وظهر من غريب الحال أيضاً أن نضال الشعب الرازح تحت الاحتلال الصهيوني ضد محتليه هو إرهاب، بينما إدخال إرهابيي الأرض إلى الدول المستهدفة من أجل تدميرها، وتفجير مجتمعها هو ثورة، وربيع. ثم التحالف ضد الإرهاب هو تحالف معه، ومن يحارب الإرهاب حقيقةً لا يُساند، ولا يتم الاعتراف له بأي دور إيجابي وكأنَّ تحديد مفاهيم الحرب على الإرهاب وعدمها هي وكالة حصرية لأميركا، وعملائها فقط. ولقد حدث من جرّاء تمييع السياسة وأخلاقياتها الإنسانية تعويم مقصود للإرهاب الدولي حتى يتمدّد؛ لكن شرط أن يكون تمدده خارج الأرض الأوروبية، والأميركية، وما حصل عبر تمييع السياسة الأخلاقية، وتسطيح الفكر الواقعي، والتقدمي، والسماح بتعويم الإرهاب خاصة حين صار فيه نوعان: إرهاب حميد حين يضرب أعداء الغرب المتصهين، وخبيث حين يضرب الغرب، وهنا طفت على سطح الحياة الدولية مشاعر إنسانية من نوع شعبوي يتعاظم دوره، وأخذ المواطن الأوروبي، والأميركي يعيد قراءة سياسة بلاده، ويراجع الأهداف الوطنية، والإنسانية التي اتخذتها ليجد أنه أمام طبقة سياسية لاتقوده إلى مستقبل، بل لها إنذار مخيف بأن ما صدّروه من إرهاب ها هو يتعولم، ويتعوّم، ويضربهم في عقر دارهم، ويمنعهم من احتفالاتهم بطقوسهم الدينية، والوطنية، والإنسانية.
وهنا برز السؤال العالمي الكبير ومفاده: بأي عقل اشتغلتم يا قادة الغرب المتصهين حتى نسفتم قيم العدل الدولي، وقيم الحق والحرية، وقيم التطور، والتنور، والديمقراطية. وهل نموذجكم في الوصول إلى عالم الحرية وحقوق الإنسان هو من إسرائيل الغاصبة، وأردوغان الديكتاتور، وممالك الخليج ومشيخاته الظلامية؟ إن أخطر ما وضع العقل الواقعي اليدَ عليه هو كيف تمّ بيع الفكرة العالمية المبشرة بالتقدم، والتطور، والتنوّر، والديمقراطية، إلى أدوات مغرقة بالفهم الظلامي للدين، والحياة، والحضارة، والإنسان؟ وحين نراقب المواطن الأوروبي، والأميركي بأي عقل يُسقط الحكام الذين قادوه إلى خسارة حياته التقدمية، المتفائلة، الإنسانية نتوقف عند مراجعة عالمية شعبوية، وريادية لأطر السياسة الغربية بما يشير إلى أن الإعلام المضلل لم يعد له الطغيان الذي كان، وأن السقوط المتتابع للحكام الذين جروا وراء تخلف العقل عند أدواتهم بدل أن يفرضوا قيم التنور هو النتيجة الطبيعية لحساب الشعب في اللحظة التاريخية المحدّدة.
وما تحدث به الوفد الفرنسي الذي زار حلب وشارك في احتفالات أهلها بأعيادهم، وزار دمشق، والقادة أعطى الدليل الواقعي على التحول الكبير في الرأي العام الغربي من كل ما حدث في بلادنا –ولاسيما سورية- وأزال القناع المضلل الذي دأبت وسائل الإعلام المشاركة في سفك الدم السوري على إدامته. ويحق للمواطن السوري أن يفخر بأنه لم يجرِ وراء أعدائه ليفقدوه سيادته على نموذجه واختياراته، ويحق له أن يفخر بأنه صَبَرَ، وكافح حتى تمكّن من إزالة الغشاوة السوداء عن العقول المضلّلة.
وحين يتم التحضير لاجتماع الأستانا لم يعد السؤال عادياً حين يسأل عن سبب وجود مئات المجموعات المسلحة، وعن تنوع جنسياتها، وعن دور علاقتها بالحل السياسي والوطني بين السوريين أنفسهم. وحين يسأل عن علاقة التوازن الإقليمي بخياره السياسي، وعند دور الذين رعوا الإرهاب، وما زالوا ولا يحاسبون وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. نعم إن الطريق إلى الأستانا سيجبر أصحاب العلاقة بالفرز بين الذين هم مقتنعون بالحل السياسي السوري-السوري، وبين الذين هم قوى مفخخة مهمتها تدمير كل سعي من أجل الحل السياسي المطلوب. وفي القراءة الأولى يمكن للمتابع السياسي أن يتلمس ذهنية الاختبار لكل من يتّعظ من المتحول العالمي ومؤشراته التي أضحت تصرّ على محاسبة رعاة الإرهاب، وجعل الحرب عليه هي الربيع الحقيقي للعالم ككل وأن مهمة الأستانا إن لم تنطلق من هذه الأولوية لا يمكن أن تكتمل مقومات الحل السياسي في شيء فالمشكلة الحقيقية للحياة العالمية هي غزو الإرهاب لها بقيم الرجعة،والتطرّف، والظلامية؛ ومشكلة الأمن والسلم الدوليين هي الحرب الإرهابية عليهما، ومشكلة المواطن العالمي هي الطبقة السياسية التي استبدلت التقدم بالإرهاب الظلامي التكفيري، ولذلك فالمتحول العالمي الواقعي في السياسة سيُسقط كلّ من جرى وراء الظلامية، وهجر التنوّر والحرية.