أيُّ مرارة وأسى وحزن يصيب المرء وهو يتابع الأساليب المتنوعة والعمليات التي لا يمكن وصفها إلا بعمليات تهجير ممنهج، قامت وتقوم بها السلطات التركية تجاه أخوتنا السوريين المقيمين في لواء إسكندرون السليب، فما إن حصل الزلزال حتى بدأت عمليات التمييز بين التركي والسوري في انتشال جثث الضحايا، فالأفضلية للتركي، والسوري له الله!.
كثيرة هي الفيديوهات التي صدعنا بها، تلك التي تم عرضها في وسائل إعلامهم التركية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تلك التي يتباهون فيها بانتشال (قطة) من تحت الأنقاض، فيما هنالك عائلات كاملة (ذات الأصل السوري) في مناطق اللواء، لاقت حتفها تحت أنقاض بيوتها بسبب عدم وجود من ينقذها.
ولطالما ظهر أردوغان بمظهر الأب الحنون على ضحايا الزلزال الذي ضرب كهرمان، مبدياً تعاطفه وحزنه وألمه على ماسببه الزلزال من مآس وأحزان وآلام، حتى ليظن المتلقي المتابع، أو المغشي على عينيه، أن لا تفرقة بين سوري وتركي في الأراضي السورية التي تم سلخها، وأن فرق الإنقاذ لم تترك أحداً عالقاً تحت الأنقاض إلا وأنقذته، ولكن ماذا عن مصير السوريين هناك، والذين تمت معاملتهم معاملة لا تليق بالإنسانية من قبل حزبه الإخواني (حزب العدالة والتنمية) بعد الزلزال وحتى الآن؟!
ماذا عن الأيام الأولى للزلزال؟!
عن أعمال الإنقاذ الأولى التي تمت في بداية الزلزال، تشير إلى أن الكثيرين من السوريين في أنطاكية لاقوا حتفهم تحت الأنقاض؛ لأن السلطة السياسية التركية تركت هؤلاء يئنون تحت أنقاض أبنيتهم وبيوتهم حتى الموت، لم يكن هناك جهود إغاثية تعينهم على الخروج، وليس هناك إلا أصوات العالقين تحت الأنقاض، والتي صمتت بعد ذلك، إهمال متعمّد وعنصرية إخوانية مقيتة يجابه بها اللوائيّون هناك، وما ذاك إلا لإنهاء الوجود السوري في تلك المناطق السليبة.
منعت الدولة التركية الإخوانية عن اللواء السليب وصول فرق الإغاثة، وكذلك المساعدات الإغاثية، صادرت المساعدات الفردية والمجتمعية الواردة من خارج المنطقة، ومنعت الخيم عن المنكوبين، الأمر الذي جعل إحدى ناشطات الإغاثة في اللواء تكتب في مواقع التواصل الاجتماعي “لن ننسى كيف أننا طلبنا من الدولة إمدادنا بشاحنة خيام، فأرسلوا لنا شاحنتين من الأكفان”.
كما تم اعتقال الكثير من المتطوعين في الفرق التقدمية لأجل التضييق على المنكوبين وإرغامهم على المغادرة والهجرة، ورغم كل هذا العنف والتشريد لم يغادر اللوائيون السوريون أرضهم، لقد ظلوا متمسكين بها حتى في ظل أزمة العطش التي أصيبوا بها من جراء مصادرة شاحنات الماء الواردة من المناطق الأخرى.
رصد الناشط الصحفي اللوائي السوري سومر سلطان في صفحته وعلى مدار الشهرين الفائتين سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية في فرض الترحيل والهجرة القسريين لهؤلاء السوريين اللوائيين بعد كارثة الزلزال، والممارسات الشنيعة التي تمت بحقهم، وعدم وصول فرق الإنقاذ إلى المناطق التي يقطنونها، فلا غذاء ولا دواء ولا أماكن إيواء سوى الخيم، حتى الخيم التي نصبوها، ومنها في حديقة في بلدة دفنة (الحربيات) على سبيل المثال لا الحصر، طلبت الشرطة التركية إزالتها تحت الوعيد والتهديد، مما اضطر ببعضهم لأن يتخذوا البيوت البلاستيكية ملجأ لهم .
في اليوم الأول لشهر رمضان صدر قرار من قبل دولة الإخوان التركية يقضي بمنع تقديم وجبات الغذاء لمنكوبي الزلزال نهاراً، بذريعة حلول شهر رمضان، وأن الصوم إجباري على الجميع، بما فيهم الحوامل والعجزة والأطفال والمرضى، أما البارحة فقد اتخذت قراراً بتجميع الأنقاض الموجودة بقرب خيم المنكوبين ليتأثروا بما تثيره من غبار ورائحة الموت التي مازالت موجودة، تلك الرائحة التي تذكرهم بأحبائهم الذين فقدوهم، مما يشكل ضغطاً نفسياً على من هم تحت هذه الخيم؛ لأنهم سيتذكرون حياتهم السابقة التي كانت تضمها تلك البيوت التي أصبحت حجراً على حجر، ولذلك فإن السوريين اللوائيين اليوم يقومون بوقفات احتجاجية واعتصامات لوقف هذا المخطط القذر الذي تقوم به السلطات التركية تجاههم!
كثيرة هي الممارسات التي تابعها الصحفي سلطان، ووثقها في منشوراته، وقد استشهد بما كتبه بعض أبناء تلك المناطق في مواقع التواصل بعد الزلزال، في إشارة إلى مدى الإهمال المتعمّد للعالقين تحت الأنقاض، ولضحايا الزلزال وكذلك للناجين الذين لم يعد لهم ما يأويهم، ومن هذه المنشورات التي استشهد بها، منشور كتبته فتاة من تحت الأنقاض طالبة المساعدة لإنقاذها وفيه تقول: “أعتقد أني لن أنجو، لا أقوى على فتح عيني، إنني أموت” وبعد بضع ساعات يعلق قريب لها مؤكداً وفاتها. وآخر يقول: “اكتشفنا أن هناك شيئاً آخر سوى العناية الإلهية، هو العناية السياسية التي يجب أن نتضرع لها ونقدم النذور والأضاحي”.
ومنشور آخر لإحدى منكوبي زلزال أنطاكية كتبت تقول: “اليوم تحادثنا (مع منكوبين آخرين) عن أننا لم نعد نشعر برائحة الجثث الآتية من تحت الأنقاض. وتساءلنا عما إن توقفت الروائح أو أننا اعتدنا عليها فحسب. ولكن علمنا لاحقاً أن السلطات أهالت كلساً على جثث أهلنا لئلا تبعث الرائحة، ولهذا لم نشمها. سجلوا هذا عندكم كذلك. أعلم أنه من المستحيل أن تفهموا ألمنا، وأتمنى ألا تضطروا لفهمه. لا تنسوا أنه يجب ألا نترك هذه المدينة وحيدة. لا تنسوا هذه المدينة وأهلها وحضارتها وثقافتها وأخيراً ألمها. لا تنسونا أرجوكم”.
ومن تلك الحالات التي رصدها أيضاً الصحفي سومر أيضاً أن فرق الإنقاذ أتت بعد حوالي ثلاثين ساعة من الزلزال، وأن أحد أقاربه حدثه عن حطام منزل توقفوا عنده وأعلنوا أنه لا يوجد فيه أحياء، مستخدمين ما قالوا عنها إنها أجهزتهم الذكية وتقنياتهم المتقدمة، وبعد رحيلهم عن المكان جاء صاحب المنزل (المسافر) فحفر بقواه الذاتية ليستخرج زوجته وأطفاله أحياء.
وفي بلدة الدفنة قام رجال الشرطة بضرب شخص ضرباً مبرحاً، حتى تورمت عيناه، لأنه كان يساعد على انتشال بعض الأغراض من بين أنقاض بعض أقاربه، لقد أصبحت بقايا منازل اللوائيين قبوراً يضعون عليها أصص الريحان ويشعلون البخور.
حالات مأساوية لاتعد ولاتحصى من تلك الممارسات الظالمة التي يعاني منها أخوتنا السوريون هناك، ولهذا ارتأينا الحديث عنها في جزأين من هذه المقالة، وفي الجزء الثاني لقاء مع الصحفي اللوائي علي أرسلان دعدوك الذي سيمدنا بمعلومات عن حالات أخرى رآها بأم عينه.