كلما قدم مسلسل تاريخي أثار الكثير من ردود الأفعال، ورغم أن الدراما العربية قدمت الكثير من الأعمال المتميزة في هذا المجال إلا ان هذه الأعمال كانت دائماً تتعرض للانتقاد سواء من حيث الفكرة أو سوء الانتاج أو ضعف تجسيد الشخصيات.. وربما هذا واحد من الأسباب التي جعلت هذه الأعمال تختفي في السنوات الأخيرة.ولعل المسلسلات الدينية هي المسلسلات الأكثر عرضة للنقد والجدل، و في كثير من الاحيان تكون هناك أحكام مسبقة لدى البعض من هذه المسلسلات بأنها تشويه للتاريخ الإسلامي وتزييف للوقائع التاريخية، خصوصاً أن بعض هذه الاعمال يستند إلى مراجع بالنسبة للبعض هي مراجع غير صحيحة من المجامع العلمية. وبالمقابل ثمة فريق يرى في هذه الاعمال صورة مشرقة للتاريخ الاسلامي ورسالة محبة وسلام للأجيال القادمة، ولا نأتي بجديد عندما نقول بأن مصر هي من أهم الدول التي أنتجت العديد من المسلسلات الدينية عبر سنوات طوال ثم فجأة توقفت وتوجهت نحو أعمال ذات صبغة جديدة تحقق انتشاراً أوسع وأكثر ربحاً، ربما بسبب قلة موارد الانتاج والتكلفة الضخمة التي تتطلبها هكذا أعمال، إضافة الى المخاطرة في انتاج هذا النوع من الأعمال الذي قد يتوقف عرضه أو لا يسوق للمحطات حسب مزاجية هذه المحطات وأجنداتها.ورغم هذه المخاطر كلها أطل علينا هذا الموسم مسلسل (رسالة الإمام)، الذي نوه صنّاعه منذ البداية بأن المسلسل هو رؤية درامية مستوحاة من أحداث تاريخية، وبعض أحداث وشخصيات العمل من وحي خيال المؤلف للضرورة الدرامية، في محاولة للابتعاد عن كل من يحاول الاصطياد في الماء العكر.ورغم أن المسلسل كان من حلقاته الأولى واضحاً أنه يتحدث عن الصعوبات التي واجهت الامام الشافعي في نشر رسالته، وأن العنوان الكبير لرسالته المحبة والتنوير، إلا ان التنويه الذي وضعه صناع العمل في الشارة لم يقف حائلاً أمام الانتقادات التي ابتعدت عن الجوهر لأنها لم تستطع مواجهة العنوان الكبير فراحت إلى أبعد من ذلك ليتنفس البعض من خارج جسد المسلسل إلى درجة أن ثمة صورة لبطل المسلسل خالد النبوي ظهر فيها بنظارة حديثة واللقطة من كواليس العمل، وليست من مشاهد المسلسل، لكن يبدو المطلوب من خالد النبوي أن يكون بصورة الإمام في كل الأوقات والأماكن وليس في المسلسل فقط، وبذلك يصبح الهجوم عليه مبرراً لأن النظارة لم تكن موجودة أيام الإمام الشافعي. واللافت أن من يقول ذلك يبدو أنه لا يقرأ ولا يتابع بدليل أن تصريح نقيب المهن التمثيلية في مصر كان واضحاً عندما قال أن هناك مجموعة من محبي الظهور والتواجد دائماً يشنون حملات ضد الدراما العربية والمصرية، وبأن النظارة كانت من تصوير الكواليس وليست من مشاهد المسلسل وبأن الصورة تعود إلى تحضيرات المسلسل وقيام الفنان خالد النبوي بمراجعة المشاهد. أيضاً لم يلاحظوا تعامل شخصية الشافعي (الأب) مع بناته مختلفة تماماً عن معاملته كفقيه لتلاميذه في المسجد، وهي بدورها تختلف عن معاملته مع طبقة الساسة.و الحقيقة أنه في هذه الهجمات ثمة رائحة تصيُّد واضحة للعمل، ولا سيما الذين انتابهم التداخل والارتباك من استخدام لغتين: عامية مصرية وعربية فصيحة رغم أن مؤلف المسلسل محمد هشام عبية أوضح إن استخدام اللغة العامية في الحوار بين الأبطال رغم أنها لم تكن موجودة بالفعل في فترة الإمام الشافعي، إنما جاء بهدف سهولة التلقي عند الجمهور، وأن اللغة المستخدمة وقت الإمام الشافعي كانت اللغة القبطية ثم دخلت اللغة العربية الفصحى ومن الاثنين ولدت اللغة العامية تدريجياً، ورأى صُناع العمل استخدام العامية لسهولة التلقي.المفارقة أنه رغم كل هذا الهجوم حصد المسلسل أكبر نسبة مشاهدات في حلقاته الأولى، وربما هذا مؤشر واضح وخير دليل على أهميته في الوقت الذي تزخر المحطات بالكثير من الاعمال الاجتماعية والكوميدية والترفيهية.وإزاء كل ما تقدم وبكثير من التروي والتأمل وبمتابعة حيادية للمسلسل بعيداً عن أية مواقف أو انطباعات مسبقة، وبتقييم مبدأي من حلقاته الأولى كان واضحاً أهمية الدور التنويري الذي يقدمه المسلسل بعيداً عن الأعمال التي تدعو للتطرف والطائفية والتشدد والعنف. وهذا يحيلنا للتساؤل: هل الماضي هو قصة ثابتة يعاد تقديمها؟ أم أن المطلوب هو استلهام الماضي لنشكل حاضراً اكثر وعياً وجمالاً.هل المطلوب أعمال ذات سرد تسجيلي للوقائع أقرب للأعمال الوثائقية أم أعمال أدبية درامية تحمل رؤية تاريخية تقارب الواقع المعاصر و تقدم خطاباً انسانياً حضارياً؟ وبذلك من حق المؤلف محمد هشام عبيه وفريقه المعاون استحداث ما يتراءى لهم من أحداث وشخصيات تخدم دراما العمل وبالتالي من هنا تأتي أهمية هذا المسلسل الذي بالإضافة الى الفكرة النبيلة التي يحملها، فهو عمل فنى متميز مشغول بعين سينمائية للمخرج الليث حجو الذي نراه اليوم قيمة مضافة للدراما المصرية، كما الراحل حاتم علي في عمله الملك فاروق.الليث حجو يقدم صورة سينمائية رائعة عبر الشاشة الصغيرة، وثمة الكثير من المشاهد التي هي أقرب للوحة التشكيلية، إضافة الى قدرته الهائلة على تحريك المجاميع بكثير من الدقة والجمال. والأهم قدرته على إدارة الممثلين وخصوصاً الشخصية الرئيسية شخصية الإمام الشافعي التي جسدها الفنان خالد النبوي وأعادنا بالذاكرة إلى الأداء الرائع لشخصية (رام في فلم المهاجر) ولكنه هنا يتفوق على نفسه ويقدم شخصية أكثر أهمية وأكثر نضجاً، مع الإشارة هنا إلى أن بقية الممثلين الذين قدموا أداءً جميلاً ومتوازناً كل حسب دوره، حتى المجاميع أشعرونا بأنهم يشتغلون بحرفية عالية، وكذلك الموسيقا التصويرية التي كانت صدى لروح النص والممثلين.خلاصة القول: إن المتابع لردود الأفعال على المسلسل الذي يتناول جزءًا مهماً من سيرة أحد الأئمة الأربعة الإمام محمد بن إدريس الشافعي، يؤكد أن الرسالة التي صنع من أجلها العمل بالفعل قد وصلت وبعد حلقات قليلة للغاية إضافة لما خلقه هذا العمل من حالة جدل تاريخي وفقهي وفني كبيرة في فضاء التواصل الاجتماعي وفي الصحف والمواقع العربية ولعل العمل الجيد هو الذي يخلق مثل هذه الحالة من الجدل.رسالة الإمام.. عمل سيعيش طويلاً، وربما تأتي أهميته أنه يدعو لقيم الخير والحق والجمال التي دافع عنها الإمام الشافعي ومعاني المحبة التي حملها الإمام وحاول نقلها إلى الناس. وكل ما هو مطلوب أن نشاهده بحب لأنه عمل يدعو أولاً وأخيراً الى الحب.