في تناول الأحداث الصغيرة منها والكبيرة، وتحليل أسبابها واستشراف نتائجها، يُثبت الإنسان في كلّ مرّة أنه «خُلِقَ عجولاً»، وأنّه رغم هذا التاريخ الطويل نسبياً للبشرية، فهو ما زال قليل الصبر والحكمة في تفكّره واستقراءاته. وإذا بدأنا هنا من الحرب الإرهابية، التي شنّتها الدول الاستعمارية الغربية وأتباعها، على سورية عام 2011، وقام أحدنا بالعمل المضني في استعراض تيّار الإعلام الغربي والعربي بخصوص هذه الحرب، نجد أن التحليلات والاستقراءات التي نُشرت بصددها، والتي ساهمت في تضليل الكثيرين، تفتقر إلى الاستفادة من التاريخ، كما تفتقر إلى نعمتي الحكمة والصبر. وإذا تناولنا الحرب على اليمن بعُجالة، نجد أن معظم ما قيل ونُشر عن الحرب على اليمن، لا علاقة له بتاريخ اليمن، ولا بصفات الشعب اليمني الأصيلة والمثبتة، ولا بالحقائق الوجودية اليوم التي يعيشها هذا الشعب، بل تنطلق بمعظمها من استهداف عزيمة وثقة هذا الشعب بنفسه، ومحاولة إلحاق الهزيمة النفسية به من خلال التهويل الإعلامي الذي هو في الحقيقة أداة من أدوات هذه الحرب على هذا الشعب الشجاع والصابر والمؤمن بالله والوطن.
ولكنّ المثال الأكبر، والذي أودّ أن أتوقّف عنده وأقلّبه من كلّ زواياه وجوانبه، وذلك للأثر الشديد له على مصيرنا جميعاً، ومصير البشرية للعقود القادمة، هو العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي رغم انطلاقها من نقطة نزاع بين روسيا والغرب إلا أن ارتداداتها ونتائجها ذات أثر بالغ على مستقبل وشؤون الدول، وعلى مستقبل العلاقات الدولية، وعلى مستقبل الإنسان في كلّ مكان، ولن تستكمل هذه الارتدادات دورتها ونتائجها إلا بعد عقود من الآن، وسيعيش أبناؤنا وربما أحفادنا التغيرات التي أطلقتها شرارة هذه الحرب فقط لإطلاق مسار تشعّب بعد ذلك وتطوّر في الميادين المختلفة وتطوّرت أهدافه وأصبح مثل كرة الثلج لا يمكن إيقافه بمكان ولا تحديده بموضوع أو مجال معين.
بعد سنة فقط من بدء هذه العملية في أوكرانيا، يجتمع الرئيسان الروسي والصيني ليناقشا مجالات التعاون بين بلديهما في الطاقة والصناعة وتبادل السلع بالعملات المحلية، والاستثمار في مجالات لم تخطر لهم على بال قبل عام فقط، من دون أن يركّزوا على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي ربما تشكّل اليوم هامشاً صغيراً في إطار هذه العلاقات. وبعد عام من هذه العملية توقّع الهند مع الاتحاد الروسي اتفاقاً هاماً لتصدير الطاقة من روسيا إلى الهند بأسعار تفضيلية، الأمر ذاته تمّ توقيعه مع الصين وبالعملة المحلية؛ أي استبعاد متزايد للدولار، وهو ما سينجم عنه نهوضاً ملحوظاً في السنوات القادمة للصناعة الهندية والصينية، وتعزيز قدرتهما على منافسة المنتجات الأوروبية والأميركية.
وبعد عام من هذه العملية قامت الصين وروسيا وإيران بإجراء مناورات عسكرية بحرية مشتركة لضمان سلامة وأمن الممرات المائية، الأمر الذي لم يكن يخطر لأحد على بال قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وبعد عام من هذه العملية قامت الصين برعاية أهمّ اتفاق في هذا القرن، وبالتأكيد أهمّ اتفاق لمصير منطقة غرب آسيا والوطن العربي، وهو الاتفاق الإيراني السعودي، الذي كان مجرّد الحديث عنه قبل عامين يُعتبر ضرباً من الخيال. وبعد عام من العملية أصبحت إيران عضواً في منظمة شنغهاي، وقدّمت السعودية مؤخراً طلباً للانتساب إلى المنظمة ذاتها، ما يجعلها منظمة تضم أهمّ منتجي الطاقة من روسيا إلى إيران والسعودية، وسوف يكون لها رأي هام في أسعار وتوريد الطاقة عالمياً، وتتعامل دول هذه المنظمة بالعملات المحلية، مرسلةً دولار الهيمنة الأميركية إلى حتفه.
وبعد عام من هذه العملية بقي الاقتصاد الروسي منتعشاً، بل ازداد تصديره للنفط والغاز لأنه سارع إلى إيجاد أسواق بديلة عن السوق الأوروبية، وازداد الدخل الروسي من تصدير النفط والغاز عمّا كان عليه قبل العملية العسكرية في أوكرانيا، رغم كلّ العقوبات التي يُمنّي الغرب نفسه بالحديث عنها، وتضخيم آثارها المأمولة بالنسبة لهم، في حين هي فاقدة الأثر والأهمية، بل أكثر من ذلك، لقد دفعت هذه العقوبات الظالمة على الشعوب والدول تجمع دول آسيان لاتخاذ قرارات جريئة بتبادل السلع بعملاتها المحلية كي لا يتمكّن الغرب من التلاعب بأقدارها حين يحلو له وللأسباب التي يرتئيها. أي إن هذه العقوبات ارتدّت على الذين أصدروها وأفقدت ثقة العالم بهم وبعملتهم وبنظام المدفوعات الـ«سويفت»، ودفعت الدول للتفكير ببدائل متحرّرة تماماً من التأثير الغربي. الأمر الذي ينعكس حكماً على مكانة الدولار الأسطورية، كعملة دولية، والتي كانت سبباً أساسياً لهيمنة الغرب الاستعماري على العالم وسطوته على موارده ونجاح عقوباته.
هذا في الشرق، أما في الغرب فقد أرغمت الولايات المتحدة الدول الأوروبية على بتر علاقاتها مع روسيا، رغم أن هذه العلاقة كانت تصبّ في مصلحة الدول الأوروبية من خلال توفير الطاقة الرخيصة لاستخداماتها في الزراعة ولصناعاتها، وماذا كان البديل؟ كان هو أن تبيع الولايات المتحدة هذه الطاقة للدول الأوروبية بأربعة أضعاف السعر الذي كانت تشتريه من روسيا، الأمر الذي سينعكس إفقاراً لهذه الدول الأوروبية، وتخلّفاً في صناعتها وزراعتها، وعجزاً عن منافسة المنتجات الصينية والهندية والإندونيسية والبرازيلية في المستقبل القريب، الأمر الذي سيكفل خروج أوروبا من لائحة الدول المتقدّمة صناعياً، والمنافسة اقتصادياً لدول الشرق التي تمارس الحكمة والصبر في علاقاتها أولاً، وببناء عالم جديد من الإنتاج والعلاقات يزيح بحكم وجوده وقدرته على المنافسة، العالم الغربي الذي تصرّف بصلف واستكبار، فوقع في شرّ ما قدّمت يداه.
هذا على الصعيد الاقتصادي والإنتاجي والمالي، أمّا على الصعيد الأخلاقي والإنساني، فقد سقط الغرب سقوطاً مدوّياً في براثن الليبرالية الحديثة سيئة الصيت، وأخذت الإنسانية تعمل على حماية نفسها من تأثيرات الغرب القميئة على مستقبل أجيالها. ولكلّ هذا أقول لمن ما زال يؤمن بقوّة الغرب وحكمته، وأنه لا يُقهر وأنه الأنموذج والمثل، أن التاريخ يتشكّل ليبرهن عكس ذلك تماماً، ولكنّ التاريخ ليس عجولاً، بل يأخذ وقته في حياكة الأحداث إلى أن تكتمل شروط التحوّل الكبير، والذي سوف يشهده ويعاصره ويعيشه العالم لحقب، وربما لقرون بعد الإيذان بهذا التحوّل من خلال شرارة أطلقت في مكان ما ثمّ أخذت الأحداث مسارها ومجالاتها وتوقيتها بغضّ النظر عن مصير تلك الشرارة، وبشكل أكبر وأهمّ وأدهى مما يتخيّله كثيرون.