في القصة رجلٌ غريب يصل إلى قرية، تنبحه كلابها قليلاً، ثم تنصرف إلى مصاطب البيوت، وهي تهرّ هريراً خافتاً غير مبالية بالغريب الذي لا يلبث أن يرى صبيةً جالسة مع مغزلها في شمس الضحى تنسج ثوباً غير مكتمل، ترد على تحيته من دون أن تترك خيطانها، لكن الحديث بينهما يتصل، لأنها تلاحظ الغبار الذي يعلوه، وتعرف أنه قادم من بلاد بعيدة وغامضة بسبب هذا الغبار، ويسألها: كيف تسرح الثعالب هنا، وتأكل العنب من دون أن يصدها أحد؟ وكيف ترعى الذئاب قرب الحملان؟ وأين اختفى أهل الدور المسقوفة بالقرميد، وتركوا العناكب تعشش في شبابيكها؟ ثم عن صاحب الثوب الذي تنسجه! ويبدو الحوار هادئاً مثل أغنية في ظهيرة قائظة، لا يتقارب فيها المعنى والأداء، فيخرج من جيبه بلورة، ويقدمها لها هدية فترتجُّ من المفاجأة، هي التي لا تعرف البحر إلا في الحلم، وتصغي بذهول إلى حكاية البلورة المرتبطة بملاح تائه، أخذها من قبطان ياباني، ولم يستطع العودة إلى وطنه في قلب الأعاصير ولا بعد هدوئها!
تعود الصبية إلى نسيجها، وقد نقضتْه لتشتغل على قياس آخر، يقول الغريب في نفسه: إنه قياس الملاح التائه الذي احتفظت ببلورته، وصدقت حكايته، فينصرف إلى قرية أخرى، لكنه هذه المرة يحمل عبء الشمس اللاهبة ودمعة تنحدر من عينه، يجففها الطريق السرابيّ الممتد أمامه!
القصة بهذه البساطة الظاهرية، لكنها في كل تفصيل تزيل قشرة رقيقة غير مرئية، عن معضلة الوجود في البحث عن شريك حياة يمنح الحبَّ ويبدع في الاستقرار الروحي والنفسي، فالرجل الجوال، هو غريب أمضى حياته من دون حبيبة، والصبية الجالسة على المصطبة لا تنسج ثوباً حقيقياً، بل تنتظر حبيباً على قياس أحلامها، لذلك تنقض النسيج لتعدله على قياس الملاح التائه، الذي لم يكن إلا الغريب نفسه، مخترعَ الحكاية برمتها، لأن الحب، الهوى، بذاته، لا يأتي بشكلٍ صريحٍ وفجّ ككل شؤون الحياة بل يحتاج إلى أزياء متعددة ليخرج من تمويهها بهياً وساحراً، أما أسراره فتبقى مخبوءة، لأن العاشقَيْن من عالمين مختلفين تماماً، ولم ير فيهما «جون غراي» إلا قادمين من كوكبي الزهرة والمريخ، وبين الكوكبين في عالم الأدب دواوين شعر وروايات وقصص وأفلام سينمائية ومآسٍ بشرية في الواقع، لكن كاتب قصة «الملاح وسر البلورة» أتى من مكان عميق، وترك في كل سطر باباً مخفياً يأخذ القارئ إلى ممرات سحرية، فيها كل تفاصيل الحياة وأسئلتها الوجودية العسيرة