د. مازن المغربي
واظبت السلطات الفرنسية على شن حملات دعائية ضد الدولة السورية، بالتوازي مع تورّطها المباشر في الحرب العدوانية ضد الشعب السوري، وكانت الذريعة المعتمدة هي تلك الأسطوانة المملة المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات السياسية في سورية، والتباكي على أداء القضاء السوري، لكن تداعيات محاكمة فتى لم يتجاوز السادسة عشر من العمر جاءت لتؤكّد أن الابتذال صار السمة الأبرز في أداء المؤسسات العامة الفرنسية.
تعيش فرنسا حالة ترقب بعد أن تبينت هشاشة نظامها السياسي القائم، والذي لم يعد يقدر على ضبط الحياة الاجتماعية إلا بالاعتماد على حالة طوارئ تمّ فرضها في 13 تشرين الثاني 2015، وواظبت الحكومة الفرنسية على تجديد العمل بها تحت ذرائع مختلفة، الأمر الذي دفع منظمة “العفو الدولية” لتخصيص فرنسا بقسم هام من تقريرها السنوي الصادر في شباط الماضي، والذي رصد أربعة آلاف واقعة اقتحام منازل دون الحصول على تفويض من القضاء المختص، كما وثّق حالات فرض عقوبة الإقامة الجبرية بحق 612 شخص دون أي سند قانوني، الأمر الذي يعتبر انتهاكاً صريحاً لحقوق المواطنة.
وحول هذه النقطة، قال نيقولا كراماير، المسؤول الفرنسي عن برنامج الحريات الشخصية والعامة في “منظمة العفو”، إن فرض الإقامة الجبرية يتعارض مع القانون، حيث لم يتم استدعاء أي فرد ممن فرضت بحقهم هذه العقوبة للمثول أمام القضاء، على الرغم من مرور أشهر عديدة على فرضه.
وكانت الانتخابات الرئاسية التمهيدية تميزت بتغيّر عميق في بنية الخطاب السياسي، وتحوّلت إلى مهاترات تركز على الحياة الشخصية للمرشحين، وتتجاهل برامجهم السياسية المتشابهة في المضمون. وصار الفساد سمة ثابتة ومنتشرة بين صفوف النخبة السياسية، وأدى إلى ملاحقات قضائية طالت العديد من أبرز الشخصيات الفرنسية، بما في ذلك بعض الطامحين بالوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية.
وكانت فضيحة مرشح اليمين، فرانسوا فيون، الذي ثبت تورّطه في منح زوجته منصباً وظيفياً وهمياً في فريقه البرلماني، جنت منه مبالغ طائلة من المال العام، من بين القضايا التي أثارت الكثير من النقاشات. ولم يقتصر تورّط المرشح الرئاسي على ممارسات لا تتوافق مع الصورة المفترضة لرجل يسعى للوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية في دولة تمتلك حق النقض في مجلس الأمن، خصوصاً بعد أن كشفت الصحافة عن حصوله على هدية من صديق، هي مجموعة من الملابس الفاخرة بقيمة خمسين ألف يورو.
سعى فيون لاستغلال حصانته بوصفه نائباً في الجمعية الوطنية، لكن القضاء استدعاه، وهذا يعني أنه، من الناحية القانونية، متهم بمخالفة القانون.
وكان فيون صرح، في 26 من كانون الثاني الماضي، بأنه سينسحب من الانتخابات الرئاسية في حال استدعائه للتحقيق، لكن عجز اليمين الفرنسي عن التوافق على مرشّح قادر على منافسة زعيمة “الجبهة الوطنية”، مارين لوبن، فرض التمسّك بترشيح فيون بوصفه المرشح الفائز في الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين، وريث الحركة الديغولية، خصوصاً وأن السجل العدلي لمنافسيه الرئيسيين داخل الحزب، نيكولا ساركوزي وآلان جوبيه، لا يمكن أن يوصف بالمشرّف.
صارت الفضائح المالية والأخلاقية من ثوابت للحياة السياسية الفرنسية، ووفق ما جاء في برقية تمّ تسريبها عن طريق السفارة القطرية في باريس، فإن قائمة طويلة من الشخصيات العامة تتلقى بانتظام مغلفات يحتوي كل منها “إكرامية” تبلغ عشرة آلاف يورو وزّعها السفير القطري على العديد من الشخصيات الثقافية والإعلامية والسياسية، بغرض مساهمتهما في التعتيم على دور قطر في تمويل شبكات الإرهاب التكفيرية.
ويبدو أن التفسّخ الذي حل بالمؤسسات العامة وصل إلى القضاء الذي لطالما تغنى أنصار الديمقراطيات التمثيلية باستقلاله، ووصفوه بأنه راعي القيم الديمقراطية. ففي محاكمة تذكّر بمحاكم التفتيش سيئة الصيت، حكمت محكمة الأطفال في باريس، مطلع آذار الجاري، على فتى مراهق بالسجن مدة سبع سنوات، تليها خمس سنوات من المراقبة القضائية. وينحدر الفتى من أكراد تركيا، وسبق له القدوم إلى فرنسا وهو في الحادية عشر من العمر ليلتحق بوالده، وقام، في كانون الثاني 2016، بمهاجمة مدرس في مدينة مرسيليا. كان وقت الاعتداء في الخامسة عشر من العمر، واستخدم في محاولته ساطوراً، ولم يسفر الاعتداء إلا عن إصابة المدرس بجروح طفيفة.
تمّ توصيف الواقعة بأنها شروع في القتل، لكن أغرب ما في الموضوع أن قرار الحكم تضمن فقرة تشير إلى وجود سند قانوني لتشديد العقوبة بسبب انتماء الضحية إلى مجموعة دينية بعينها، وهو ما يتعارض مع القوانين التي تنص على المساواة بين المواطنين أمام القضاء، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية.
علّقت الصحافة على الموضوع بأن القانون يعاقب على ما اقترفه الفتى بالسجن مدة عشرين عاماً، لكن تمّ اعتبار الفتى قاصراً وقت الحادثة، حيث لم يكن قد بلغ السادسة عشر من العمر، ولم يكن يفصله عن بلوغه هذا السن سوى أسبوع واحد.
في واقع الأمر، كان الفتى، ولا يزال، طفلاً، حيث نصت المادة الأولى من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، والتي تمً إقرارها بالاستناد إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 25/44 الصادر في 20 تشرين الثاني 1989، على تعريف الطفل بأنه كل شخص لم يبلغ الثامنة عشر من العمر. كما أن القانون الفرنسي نصّ، في قرار له في 15 تموز 1974، على منح المواطن حق التصويت عند بلوغه الثامنة عشرة، حيث يصبح مسؤولاً مسؤولية كاملة عن أفعاله. والطريف في الأمر أن محامي الفتى عبر عن قبوله بالحكم، وأعلن أنه لن يقوم باستئنافه.
جاء تعاطي الإعلام الفرنسي مع الموضوع ليؤكّد ما صار أمراً معروفاً لجهة تبعية وسائل الإعلام الكبرى للطغمة المالية. فوفق ما ورد في الصحافة الفرنسية، تحوّل الفتى إلى التشدد دون أن يلفت نظر أحد من أصدقائه أو معارفه أو عائلته أو أساتذته، وتمكّن من إخفاء توجهاته عن أعين أجهزة الاستخبارات. وجاء في تعليق صحفي على الحادث أن الفتى رمى الساطور وفر هارباً، لكن لم تمض دقائق قليلة حتى تمّ توقيفه واعتقاله، وعثر معه على سكين قالت وسائل الإعلام أنه كان ينوي استخدامها لقتل رجال الشرطة الذين سيحاولون اعتقاله، متجاهلة واقع أن الفتى فشل في إصابة المدرس بأذى، على الرغم من استخدامه للساطور، فكيف سيتمكّن من قتل رجال شرطة مدربين باستخدام سكين. كما أغفلت وسائل الإعلام ذكر طبيعة العلاقة بين الفتى والمدرس، وأوردت أن الفتى كان على علاقة بتنظيم إرهابي دولي، على الرغم من عدم توجيه الاتهام لأي شخص بتقديم أي دعم لهذا الإرهابي المزعوم.
يمثّل الموضوع فضيحة بكل المعايير، حيث تمّ تجاوز العديد من القواعد القانونية بالاستناد إلى الخلفية الدينية لكل من المتهم والضحية، الأمر الذي يذكّر بحادثة قديمة كانت لها تداعيات هامة. فقبل سنوات طويلة، هزّت فرنسا فضيحة قضائية وسياسية قسمت المجتمع الفرنسي، عندما تمّ استخدام انتماء الضابط ألفرد دريفوس إلى الديانة اليهودية بوصفه من الوقائع التي تبرر إدانته، في محاكمة تحوّلت إلى منعطف تاريخي في حياة المجتمع الفرنسي. استمرت الأزمة من العام 1894، تاريخ إدانة الضابط بتهمة تسريب أسرار عسكرية إلى السفارة الألمانية في باريس، وحتى العام 1906، تاريخ إعادة الاعتبار إليه بعد أن تبيّن أن انتماء الرجل إلى الطائفة اليهودية كان من أسباب تحامل القضاء عليه، فهل تكون قضية هذا الفتى الشرارة التي تشعل حملة لمنع التمييز بين أطراف الخصومات القضائية بالاستناد إلى خلفيتهم الدينية؟!.