في تشريح المعارضة السورية

بسام هاشم :البعث

كان الأولى أن تسمّى طابوراً خامساً، ولكن الإشكال المفهومي أنها نشأت وترعرعت وطوّرت مصالحها الذاتية والسياسية في المؤسسات والهيئات و”الشركات” الأوروبية والأمريكية والبترودولارية الخليجية، وفي قطيعة تاريخية مع اهتمامات وتطلعات ومعاناة الشعب السوري على تنوّع شرائحه وأطيافه. وكان يمكن أن تصنّف، مثلاً، في عداد “النخب المضادة” الحاملة لمشروع سياسي مغاير، غير أن الإشكال أيضاً أنها افتقدت لثقافة النُخبة وفلسفتها، ولم تبد، على امتداد سنوات الأزمة، إلا مظهر الشراذم والحلقات المغلقة المتقاتلة والمتناحرة بدوافع شخصية جشعة وانتهازية. وكان يمكن، أقله، أن تحظى بصفة “معارضة سياسية” لولا أنها مارست الإقصاء المتبادل، والاستقواء بالخارج، وراهنت على الفظاعات الإرهابية، في المدن والأرياف، وضد المؤسسات، في محاولة لتقويض أركان المجتمع السياسي السوري وتدمير ركائز الدولة السورية بثوابتها الوطنية ومصالحها العليا الإستراتيجية، السياسية والاقتصادية والأمنية.

“رجال” المعارضة/ المعارضات السورية، للأسف، ولربما للصدفة الطيبة، هم، في غالبيتهم، رهط من المرتزقة الذين كان يمكن تجنيدهم في أي بلد، وفي أية قضية. فالأساس بالنسبة لهم، كما هو حال كل المعارضات العربية منذ غزو العراق، وبلا استثناء تقريباً، أنهم يأتون على ظهر الدبابات الأمريكية، أو بتعليب من سفراء واشنطن ومكاتب الـ “سي آي إي” في العواصم العربية،  وأنهم يقاتلون بدماء وأرواح أبناء “بلدانهم الأصلية”. لا همَّ إن استأجرهم السعوديون أم القطريون أم الأتراك أم الأمريكيون والفرنسيون، أم صهاينة نتنياهو، ولا تعنيهم في شيء المحدّدات التاريخية التي صنعت وبلورت المصالح الوطنية السورية خلال قرابة قرن كامل من النضال الوطني والقومي ضد الاستعمار الغربي والاحتلال الإسرائيلي والمشاريع الانعزالية والانفصالية في سورية والمنطقة العربية.

لم يكن الخط البياني لقوة المعارضة/ المعارضات السورية، وحضورها السياسي، ليتحدّد انطلاقاً من صعود وهبوط حراكات سياسية واجتماعية داخلية. ولم يرتبط جدول أعمالها بأجندات ولوائح مطلبية شعبية أو قطاعية، بقدر ما ارتبط ولازم توافقات وتقاطعات مطامع إقليمية وغربية. ولا تزال ماثلة في أذهان الجميع تلك الأزمات التمثيلية الدورية التي كانت تندلع في قلب هذه المعارضة/ المعارضات الخارجية مع كل حديث عن تسوية محتملة، كما نتذكّر التشكيك المزمن بقدرتها على ضبط إيقاع “أجنحتها المسلحة” على الأرض، أو بناء أوامرياتها، بحيث تحوّلت في كثير من الأحيان إلى مجرد واجهة سياسية مصطنعة لمجموعات إرهابية عابرة للحدود تقوم على تشغيلها أنظمة وحكومات خليجية وغربية.

اليوم، تعيش المعارضة/ المعارضات السورية لحظة حقيقة سياسية كاشفة. لقد دقت الأزمة السعودية الإماراتية/ القطرية إسفيناً عميقاً في مرجعيتها التحريضية واللوجستية، وبات عليها أن تغادر، ولو جزئياً، تلك المساحة الواسعة والعريضة التي كانت تمارس من خلالها “البيزنس” و”النضال” بالوكالة في وقت واحد، لا بل عليها أن تخضع لاشتراطات رب عمل واحد. لقد بات للاستزلام السياسي شروطه القاسية، فالأزمة الخليجية الداهمة تضيّق فجوة خيارات التبعية، والانخراط الحصري في إحدى أجندتين هو الشرط الجديد للحفاظ على استمرار وبقاء “بيئة أعمال” معارضة موصوفة بالسياسية، بات يتعيّن عليها أن تخدم كرافعات وحوامل إضافية في صلب خلافات وصراعات وحروب الإلغاء البينية الخليجية المستجدة، وأن تجازف أيضاً بالمزيد من الارتهان للمطامح والمصالح والعلاقات الشخصية والسياسية لرجالات حقبة المحمدين في الرياض وأبو ظبي، والعهد التميمي في المشيخة القطرية، علاوة على أنها ستجد نفسها مضطرة للتكيّف مع توجهات ترامبية تقطع مع الصعود الإخواني الشرق أوسطي، وترى في أردوغان شريكاً متطلّباً ومتقلّباً ينبغي ترويضه وإعادة تأهليه.

وللمفارقة، ومع انطلاق حوارات “جنيف 7” هذه الأيام، فإن حديث الساعة هو “مفاجآت” غير معهودة تظهرها المعارضة/ المعارضات السورية، واستعداد غير متوقّع للتعاطي مع مختلف الملفات بدرجة ما من المرونة والموضوعية (تصريحات نسبت لدي ميستورا). والواضح أن هؤلاء يدخلون الآن، وحتى إشعار آخر، حالة من فقدان التوازن، ويدفعون مسبقاً ضريبة مرحلة انتقالية سديمية قد تنتهي إلى إعادة ترتيب أزمات وصراعات المنطقة على أساس جدول أولويات مختلف؛ وقد تنتهي باختراع أدوار وظيفية جديدة لهذه المعارضة/ المعارضات لن تكون بعيدة، خاصة، عن مشاريع التطبيع السلمانية والبن سلمانية؛ وقد يسدل الستار على سبع سنوات من معارضة/ معارضات ارتبطت وجودياً بواقع الحرب على سورية، استناداً إلى الحقيقة الموضوعية التي ينبغي الاعتراف بها، والتي تقول بأن هذه المعارضة/ المعارضات – ماعدا الـ “تنظيم” الإجرامي للإخوان المسلمين- إنما نشأت على هامش المؤامرة على سورية، وكمحصلة للانخراطات الإقليمية والغربية في الأزمة، وأنها لم تكن تملك، ولا تملك، الجذور التاريخية السياسية أو الاجتماعية التي تجعل منها معارضة وطنية حقيقية جديرة بالتداول على السلطة أو بالمساهمة في بناء المجتمع السياسي القوي والمعافى والدولة المستقلة ذات السيادة.

في تشريح المعارضة/ المعارضات السورية، وسواء خلصت اجتماعات جنيف إلى نتائج، أم لم تخلص، في هذه الجولة أم في جولات قادمة، هناك ثابت واحد: هجمة مرَضية وافدة لا يمكن لأي بنية سليمة التعايش معها، ولكنها تبقى مؤقّتة وعرضية مستمرة باستمرار الحاضنة الخارجية.

اخبار الاتحاد