علي قاسم
تواصل أوروبا الجري في المضمار الخاطئ، وتتمسك برؤية لا تعاني قصوراً بنيوياً حاداً فحسب، بل اعوجاج في المنطق الذي تبني عليه مقاربتها لدورها السياسي الضائع في ردهات المشهد الدولي أيضاً،
حيث البحث عن استعادة ما فقدته سياسياً على الساحة الدولية لا يستقيم بأي حال من الأحوال، مع لغة العداء للشعوب واستخدام أوراق قوتها الاقتصادية للابتزاز السياسي الرخيص، وهي تفرض منطق العقوبات الذي يتنافى مع أبسط قواعد العمل والفعل السياسي الباحث عن أجندات العودة إلى المسرح الدولي ومنصة الحدث، حتى لو كان من أبوابه الخلفية.
الواضح أن أوروبا أوغلت في عدائيتها تجاه المنطقة رغم الصفقات المشبوهة التي عقدتها إلى الحدِّ الذي باتت فيه عدوة نفسها قبل أي طرف آخر في هذا العالم، وكلما سنحت لها الفرصة لتتخلص من تبعات تلك العدائية تغوص في عنق عدميتها السياسية أكثر من السابق، وهي تصرّ على الاجترار من القاع الآسن، حين تعود إلى لغة العقوبات المبنية على افتراءات وأكاذيب وسلسلة لا تنتهي من الفبركات ذات الطابع العدائي المسبق، رغم القرائن والأدلة على أن هذا النهج قد عفا عليه الزمن، ولم يعد له أي مفعول حقيقي، بقدر ما بات عصا على رقاب الشعوب المتضررة أولاً، وقبل أيّ طرف آخر في كل تجارب العقوبات الغربية.
لا نعتقد أن أوروبا لا تعي أن الصورة التي كانت ورديةً في أذهان المجتمعات الأخرى، لم تعد هي ذاتها، أو أنها بقيت على حالها، وأن النموذج الغربي للحياة لم يعد ذلك النموذج المثالي والحالم والطموح، وقد تجاوزته الشعوب منذ زمن بعيد، وبالتالي فإن العقوبات التي تفرضها على الأفراد والدول، فقدت أهم عوامل تأثيرها المعنوي والنفسي، وإن بقيت تأثيراتها المادية المباشرة على الشعوب حالةً عدوانية قائمة ومستمرة، وهذا يدفع إلى الجزم بأن العقل السياسي الأوروبي محكومٌ بصورة الماضي النمطية، ويبني خياراته على ما يتوافر لديه من بؤر كراهية قائمة في بنيته على الفوقية والتعالي، وما تثيره من موجة غضب واشمئزاز من قبل شعوب العالم.
والنقطة الثانية أن الدور السياسي الذي تبحث عنه أوروبا والمنسي في ردهات العلاقات الدولية والقوى الكبرى، لم يعد ذلك الدور الفاعل والمؤثر، وفي أحيان كثيرة، بات عبئاً ثقيلاً تُجمع القوى الدولية على تجاوزه في كل المنعطفات والأزمات التي تبحث فيها عن حلول، وقد ثبت في العقود الأخيرة أنه كلما غابت أوروبا على وجه التحديد عن أزمة ما على امتداد العالم، كان الحل أقرب، وإمكانية الوصول إليه من دون تعقيدات أفضل، وهو ما تعرفه أوروبا، و تتلمس معطياته واقعياً، حيث باتت تُستخدم لتأجيج الأزمات، وأوكلت إليها الأدوار القذرة والمهمات البشعة التي لا تريد أميركا أن تخوض في أوحالها.
لم يتغير الحال كثيراً رغم المتغيرات وبعض التصريحات الخادعة لسياسييها، ولم نجد على مدى السنوات الماضية مقاربة أوروبية تقترب بهذا القدر أو ذاك من ملامسة الحقائق، بل تسهب في الكذب والافتراء حول خطأ محاكاتها في الماضي، حيث يبدو من الصعب على عاقل في الدنيا أن يستقيم معه فهم أي تغيير محتمل في دورها وسياستها، في وقت تعود لفرض المزيد من العقوبات، بعد أن تحولت من دول مركزية بكيانات سياسية تصنع الأحداث، وتشارك في صياغتها إلى دول وظيفية تؤدي مهمات محددة مسبقاً، وعجزت في مختلف محاولاتها عن الخروج على الدائرة المرسومة في ظل هيمنة أميركية، لم تفلح معها حالة العدائية والاشتباك السياسي مع الأميركيين على خلفية وصول ترامب إلى البيت الأبيض في تغيير الصورة النمطية.
المفارقة أن أوروبا القاصرة لاتزال ترزح تحت حقبة الوصاية الأميركية وتحتاج رعايتها السياسية والعسكرية.. وربما إلى من يأخذ بيدها، أو من يدير شؤونها، وتحاول أن تعوّض إحساسها بالدونية تجاه أميركا بممارسة أعلى درجات التجبر على الدول والشعوب، وكأنها تنتقم من عجزها المزمن في الإيغال بتأزيم المشهد وممارسة دور القوة الغاشمة حتى لو كان ذلك مؤذياً لأوروبا قبل سواها، فتفرّط بما تبقى لها من رصيد في السياسة بالتجني اقتصادياً وتحرق آخر أوراق مصداقيتها بإبداء عدائية متجبرة تغلق دونها كل الأبواب، وسينتهي بها المطاف إلى أن تجد نفسها محاصرةً قبل أن تحاصِر، ومعزولةً قبل أن تعزِل..!!