جبران خليل جبران بعيون ميخائيل نُعيمة
علي الرّاعي
ثمة عطبٌ ما؛ ذلك الذي أصاب أدب (السيرة الذاتية) في العالم العربي، وقلة من السير التي أنتجت عربياً نجت من هذا العطب، سواء السير التي كتبها أصحابها بأنفسهم، أو كتبها غيرهم عنهم.. ومن السير اللافتة في هذا المجال؛ ما حاول أن يُقدمه الروائي المغربي محمد شكري في بعض رواياته، أو ما حاول أن يبرزه ميخائيل نُعيمة في كتابه (جبران خليل جبران)، وحتى عندما خلع ممدوح عدوان معطف الأسطورة عن الزير سالم.. وغير ذلك فكل الشخصيات في السير الذاتية؛ هم طبقة لا تقلُّ طهارة عن الملائكة، ولا تنقص شجاعة عن عنترة..
مناسبة الحديث عن السيرة الذاتية؛ هو كتاب (المُختار من جبران خليل جبران) لميخائيل نُعيمة الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب من إعداد الدكتورة منى محمد علي داغستاني، والذي كان صدر سابقاً سنة 1936.. وفي هذه المُختارات يُحاول نُعيمة أن يكون المرآة لجبران وسجله الحافل والتراجيدي في بضع السنين التي أتاحتها الحياة لجبران خليل جبران ليقول كلمته الأدبية والفنية في الحياة، ولأن يعيشها– الحياة – بكامل التراجيديا محاولاً أن يُقدم صورة جبران كما عرفه عن قرب لسنين طويلة حتى شهادته لآخر شهقات الحياة لجبران في غرفة باردة وموحشة في مستشفى (القديس فنسنت) في نيويورك، وهو يرقد في غيبوبة، والطبيب يقدر أنه لن يعيش حتى منتصف الليل، وليس حوله أحد من رفاقه وخلّانه، وذلك سنة 1931..
يبدأ ميخائيل نُعيمة (1889- 1989)؛ رواية جبران خليل جبران، من تلك اللحظة في تلك الغرفة الموحشة في غربة كان جبران قد ملها تماماً، وأعدّ العدة للعودة إلى سورية – لم يكن حينها ثمة كيان اسمه لبنان – وقد عمل كل الإجراءات القانونية لشراء ديرٍ مهجور، هو دير مار سركيس ليكون «صومعته» في عزلةٍ طالما اشتهاها لصفاء روحه وتنقيتها مما علق بها من تلوث المادية والحياة الاستهلاكية الأمريكية..
وفي طريقه إلى مستشفى القديس فنسنت؛ حيث يرقد جبران خليل جبران (1883- 1931)؛ كان نُعيمة يُردد كلمات صديقه: “أنا اليوم رجلٌ صحيح يا ميشا- أنا غريب في هذا العالم يا ميشا – أنا أحبُّ هذا العالم يا ميشا”.. ما كان يُردده نُعيمة كان آخر ما سمعه من جبران، وهو يحث السائق على السرعة، ويُردد بدوره: “الصحة والموت والحياة.. والوطن والغربة – ألا من يُريني ما بينها من الفروق؟!”..
يكتب ميخائيل نُعيمة رواية جبران خليل جبران، أقول رواية، وهي كتابة ترتقي لمصاف الرواية سواء من حيث المحتوى لسرد سيرة شخصية بحجم جبران خليل جبران، أو من حيث اللغة العالية التي سرد من خلالها تلك السيرة – الرواية.. يكتب نُعيمة وهو ينتابه الكثير من الشعور بالإثم؛ فهل يحقُّ له نشر سيرة حياة صديقه، وهل كان عليه أن يُبقي أسرارها في تلك البئر المهجورة، أم إن جبران كان سعيداً في عالمه القصي، والأثير وهو يرى ما يخطّه صاحبه؟!.. يذكر نُعيمة: ترددت كثيراً قبل أن أقدم على وضع هذا الكتاب؛ لأني لست أؤمن بأن في الناس من يستطيع أن يصف من حياته حتى لحظة واحدة بكلَّ ما فيها من معانٍ مُشتبكة بمعاني الحياة الكونية، فكيف بمن يُحاول أن يحصر بين دفتي كتاب حياة غير حياته، وعندي أنّ كلّ ما يرويه الناس عن الناس باسم التاريخ ليس إلا رغوة مُتطايرة فوق بحر الحياة الإنسانية، أما أعماق الإنسان وآفاقه فأبعد وأوسع من أن يتناولها قلم أو يستوعبها بيان..
ويُضيف نُعيمة: ثم إنّ في حياة كلّ إنسان “أسراراً” يكتمها عن الناس، وأنا قد وقفت على البعض من أسرار جبران، وفاتني منها الكثير، فهل يليق بي أن أبوح ولو ببعض البعض الذي أعرفه؟! وأنا إن كتمته فما معنى الذي أكتبه؟!! أأخون نفسي والقارئ وجبران بكتمان ما ليس مكتوماً في سجل الحياة الكبرى – وإن كان مستوراً عن أعين الناس- فأصوّر صورة لا وزن بين ظلالها وأنوارها؛ لأرضي بعض من لا ذوق لهم في الفن ولا رأي لهم في الحياة، وأجور على ذوقي وأدفن رأيي في التراب؟ وإن لم أكتبه فكيف لي أن أبوح به من غير أن أظهر في عين القارئ كما لو كنت أدين أخي بهفوات قد لا أكون بريئاً منها؟ ذلك إنني عندما عدت للشرق بعد عام لوفاة جبران وجدت صديقي يكاد يكون أسطورة من الأساطير، فهو ليس جبران الذي رافقته خمس عشرة سنة.. وقد أثار ما كتبه نعيمة عن صديقه أقلام النقّاد الذين رأى معظمهم أنه لم يُصوّر جبران كما ينبغي، ومنهم من عاب عليه فضح أسرار جبران في علاقاته وسلوكيّاته.. وقد أشار نُعيمة إلى أنّ أجمل ما في حياة جبران؛ هو صراعه المستتب مع نفسه ليُنقّيها من كل شائبة، ويجعلها جميلة.. جبران الذي كان من أبرز أعماله: العواصف– 1920، إرم ذات العماد- 1921، البدائع والطرائف- 1923، وكان كتاب النبي سنة 1923، ورمل وزبد- 1926، ويسوع ابن الإنسان، وآلهة الأرض بعد وفاته بسنة 1932، وفي سنة 1933 صدر كتاب حديقة النبي.. ومعظمها كانت مفعمة بلوحاته التي رسمها بأوقات مختلفة