ظننتُ أنّ النّوم خطفها بعد أن طالعنا طويلاً، بضع صور لأزياء سوريّة تعود لعدّة عصور! كانت تجذب الموسوعة بيديها الصّغيرتين لتستأثر بالصّفحة، تحدّق بوجه المرأة الواجم، المحوط بشالٍ حريريٍّ يخفي جُمّةَ الشَّعْر قبل أن ينسدل على الكتفين والذراعين المعقودتين على ثوبٍ سابغٍ متعدِّد الطيّات، وتلمس حاشيته الملامسة للأرض حين سألت باهتمام: – أليس لهذه المرأة رائحة؟ وأطلقت الطّفلة بسؤالها هذا تداعيات سريعة مذهلة !حقّاً، إنّ حاسّة الشّم محدودةُ الخَزْن، تهزمها هشاشةُ المشموم، ولا يمكن الاحتفاظ بموجاتها كما تُحفَظ مشاهَدات البصر بالصّور ومسموعات الأذن بالتسجيل! وسرعان ما دقّتْ كلمات اكتنزها الشِّعْرُ العربيّ وقصصُ القصور والملكات والخلفاء والجواري: مسك وعود وعنبر، وأقبلت أنداء عطور مُتَخَيَّلة من قصْرَيْ المأمون والمعتصم اللذين كان لكلّ واحد منهما صانع عطوره الخاص كما جاء في «كتاب الطّيب» لابن حسن الخازن وهو يصف تلك الصّناعة الرّهيفة بتفاصيل خياليّة مرهقة، لكنّ العطور كانت حقيقة رغم أنّ قصصها شابهت أساطيرَ ألف ليلة وليلة، فالعودُ، الذي كان أصلَها، موطنُه الهند، وفي النّص الحرفيّ: «أصلُهُ أشجارٌ في غياضٍ، وراء جبالٍ، ليس إليها وصول، وخلف الجبل ماءٌ، وقدّامَه بحرٌ، ومن الجبل طريقٌ يخرج منه الماءُ إلى البحر فيحمل ما يسقطُ من أشجار العود، وسلطانُ ذلك الموضع قد أقام قوماً يترصّدون ذلك، فإذا وجدوه، دفنوه تحت الأرض، سنةً كاملة، ثمّ يُخْرَج ويُنَظّف ويُحَكُّ بالسكّين والمبرَد ويُبْرى ويُجْلَب… ومن حكى أنّه وصل إلى شجر العود النّابت فغير صادق!» (كأنّها قصة الحسناء النّائمة دونها غياض القرّيص) وفي حيثيّات الصّناعة يقول الزهراوي: «الوقت الذي يصلح لتخمير الورد والمسك هو وجه السَّحَر، قبل طلوع الشّمس، لاعتدال الهواء فيه، وإن وافق أن يكون فصل الربيع فهو أفضل ويُتَوقّى أن يكون حالةَ وقتِ هبوب الرّيح، بل في وقت سكونه! أمّا الآلات التي تصلح لعملها وسحق أجزائها فيها، فأفضلُ ما سُحق المسكُ في هاون ذهبٍ خالص، أو صَلاية (مدقّ الطّيب) زجاج بفِهْر زجاج، وأن يُذاب العنبرُ في محارة من حجر، أو في مدهن من حجرٍ أسود، أو مدهن ذهب أو فضّة مموّهة بالذّهب!». لا تواضُعَ في مملكة العطور يخضعها للمعادن والعناصر الرّخيصة، والأيدي غير الخبيرة، هي النّفيسة أيّاً كان مصدرها: المسك والعنبر والصّندل والسُّنبل والعود والكافور والزّعفران والورد والزّنبق! لكن أين الياسمين الشّامي في كلّ هذا؟ ولماذا الهند والتيبت وعشرات القوافل والتجّار والصنّاع والأدوات باهظة الثّمن وعلماء الكيمياء؟ في نهاية كتاب الطّيب، بعد أن خمّرَ العطّارون واستقطروا ومزجوا وختموا قواريرهم قالوا إنّ أجود المسك في الرّائحة والمنظر ما كان تفّاحيَاً، تشبه رائحتُه، التّفّاحَ الشّاميّ!. بلى! الشّام أمُّ الطُّيوب على هذه الأرض، تهبُّ من ترابها عواصف النّبت البريّ الشذيّ وتمتلئ غياضها وحواكيرها بالياسمين، سيد الرّيحان، وليس تفّاحَها أصلَ التشبيه، لا التشبيه فحسب، بل إنّ طيب الكون استراح في قرية «المراح» قرب دمشق التي تصدّر وردَها أطناناً إلى فرنسا، لتصنِّعه وتوزّعه، احتكاراً، على أثرياء العالم..