مضى وقت ثقيل.. أرفع غطاء القلم، ثم أعيده من جديد.. أنتظر وحي الكتابة فلا يأتي.. وثمة بعوضة متسللة إلى المكان، هاربة من عتمة الخارج، إلى وهج قنديلي.. لعلها هي التي أخَّرت مجيء الفكرة المناسبة… أطوي الجريدة التي تصفحتها قبل قليل طيات على طيات، وألاحق الحشرة.. أتخيل العصا الورقية سيفاً، والبعوضة عدواً.. وها أنا ألوح بسيفي، وأضرب هواء الغرفة، مستلهماً الفارس الحزين دون كيشوت، محارباً طواحين الهواء تلك التي تحركها الشياطين.. ثم أستكين خلف منضدتي.. والكتابة لا تأتي… ربما بسبب إحساس بالخيبة، وعبثية القتال بسيف خلّبي من ورق…
وها نحن، قلة من عشّاق الحرف والحقيقة المتمددين على مساحات الورق، نحمل سيوفنا الورقية ونحارب الغبار والقار في محاولة متفائلة للدفاع عن كوى نظيفة في الحياة… عن الشعر والقرنفلة والرغيف والمرأة الحبيبة والوطن الآمن الجميل، والعيش الكريم… ثم لا نحصد من الكتابة سوى وجع الأصابع، وألم عضلات الرقبة، وخواء المعدة (بالمعنى المجازي)، لأن: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»… ثم نستمر، على وهم الكلام الذي كتبناه.. ولم يسمعه أصحاب الآذان الكبيرة، والقصور الفاخرة… وثمة قانون، أظن أنه صدر قبل ما يزيد على نصف قرن، وعرف بـ: (من أين لك هذا؟..)..ولا تسألوني من أين لي هذا.. إذ حين تقدمت بأوراقي الثبوتية لنيل وظيفة رسمية، صرّحت بكل ما أملك.. ولم أكن أملك إلا القليل سوى محبسين ذهبيين لي ولزوجتي من عيار أحد عشر قيراطاً.. وسُجّل هذا، ودفن في مغلف لم يُفتح حتى يومنا هذا.. وحسناً أنه لم يفتح لأن فيه (بلاوي) ما آلت إليه أحوالي، وأحوال أمثالي في تآكل القيمة الشرائية لمعاشاتنا… ولا يتوقف الأمر عند قانون: (من أين لك هذا؟) وقد دفنه النسيان.. لأن (هذا) واضح لكل ذي عينين.. فثمة محسوبيّات.. وثمة مقاضيات، ومكاسب تُمنح لفريق برشلونة على حساب فريق مندلونا!.. بتفاهمات على مقياس!…
دمي… وتذكرت جحافل البعوض البشري الذي يمتص لقمة عيشنا بوسائل شيطانية… وما أكثرهم.. ويكفي أن قتلت البعوضة قبل والمولات وفنادق النجوم، ومطارح الاستجمام ليرى بأم عينيه ازدحاماً يقلع العين… وهؤلاء المزدحمون عيّنة لشريحة لا تشكل سوى عشرة بالمئة من الشعب… وليس صعباً على المواطن المهترئ أن يرصد مواضع الرفاه الفاخرة، وتخمين أسباب ثرائهم.. وهو يدرك أن فلتان السوق الحرة والليبرالية هي أم البلاوي وأبوها.. أم إن القاعدة ترسخت على: «من معه يُعطى ويزاد.. ومن ليس معه يؤخذ منه»!..