إدريس هاني:تشرين السورية
يتبادر إلى ذهن المحلّل سؤال في زمن تنفيط السياسات العربية حدّ اعورار المعنى النبيل لمفهوم القمّة: أي قمّة من دون سورية حتى لو كان في جدول أعمالها حديث مزيّف عن الحلّ فيها؟ وهل سورية في حاجة إلى أن يرسم مصيرها أعراب من دون أن تسجّل حضورها مباشرة وتعلّم من التحقوا بجامعة الدول العربية التي كانت دمشق مؤسسها، مع أنّهم لولا الخوف من تبعات الأمم المتحدة لغيروا عَلَمها داخل هذه القمّة، ووضعوا بدله العلم المحبوب لخصوم سورية: علم الانتداب الفرنسي، إذاً، فهو الانحدار من القمّة وليس الصعود. ولا مجال للوقوف طويلاً عند مضمون الخطابات التي قرئت، لأنّها تعكس جمود العقل السياسي للرجعية العربية، كل حسب كياسته وفهلوته، لكن الجديد اليوم هو التّحوّل الجديد في شكلانية الخطاب الذي تمثّله أقطاب الرجعية التي تناول بعض رموزها سورية بحقد ولعب سافل بالألفاظ، ثم يزعمون أنهم سيحررون البلاد العربية الواقعة تحت الاحتلال بما فيها الجولان السوري. وهذا يعني أنّ الألعبان الأعرابي مستعدّ لبيع سورية وتخريبها كلها والبكاء فقط على الجولان في مفارقة تنتمي إلى السريالية السياسية. أما عن فلسطين فلا شيء أصدق من قول الشاعر: «صدّقتهم يوما فآوتني الخيام».
أشكّ في محتوى وجدّية القمم العربية، فهي مجال لتقاسم المجاملة والتملّق ورسائل التبعية والتآمر، أشكّ حتى لو دبّج المحتالون خطبهم بقصائد الحماسة من أجل فلسطين، لأن فلسطين تصفّى اليوم منهجياً من خلال الحرب على سورية، وبعد أن أصبحت القضية الفلسطينية حائط مبكى وخداعاً سيميولوجياً يستند إليه خطاب خصوم سورية أنفسهم. ولعله من دواعي الأسف أنّ الخطبة العصماء التي ألقاها المشرف العام على الربيع الأعرابي التي تفيض تطاولاً على سورية ودبجت بهجاء الاستيطان، تعكس مستوى جديداً من مفارقة الخطاب، أي حينما يصبح التخاطب بمنزلة واقع افتراضي يحجب صورة واقع حقيقي ينوء بالتطبيع ويساهم في تخريب الكيان العربي والعودة به إلى ما قبل عصر الدولة، ليصبح تحت رحمة المال النفطي والعقل الصهيوني، وهي الإخراج الآخر لمفهوم الشرق الأوسط الجديد؛ لأنّ هذا المشروع في نسخته الأولى مع بيريز استند إلى عامل الإغراء طبقاً لما تتيحه القوة الناعمة أو الإغواء بالأنموذج الذي استند فيه إلى ما سماه العقل الإسرائيلي و«الراسميل» الخليجي واليد العاملة العربية، اليوم وبعد فشل مسند القوة الناعمة لمشروع الشرق الأوسط كان لا بد من أن يصار إلى مسند القوة الخشنة، ليتحول «الراسميل» هذا إلى عنصر تخريب الدولة الوطنية نفسها وتحويل منكوبي المنطقة إلى جنود إرهاب بينما الضحية سورية. استمر التآمر داخل جامعة الدول العربية، وليس أغرب من أن يتقدم خمسة من أرشيف رؤساء لبنان ليخاطبوا القمّة بينما هناك رئيس منتخب هو المعني دستورياً بمخاطبة القمّة، وذلك للتشويش وخلق البلبلة، في خطاب يخدم «إسرائيل» بينما المحرّض من داخل جامعة الدول العربية. المأساة الساخرة اليوم في قمة الانحدار العربي هي أن الذين يطلبون الحل هم صنّاع الحروب أنفسهم، لا يحتاج الحل في سورية والعراق واليمن إلاّ إلى إيقاف صنبور الدعم للإرهاب وإيقاف هدير الحقد القبلي ضدّ سورية، أما فلسطين فالحل إن استعصى على التسوية غير العادلة ففي المقاومة فسحة وفرصة. قرار واحد من الدول العربية المانحة برسم ربيع الإرهاب جدير بإيقاف الكارثة، أما التباكي على النازحين السوريين فهو سخرية من الإنسان السوري الذي فرضوا عليه النزوح وحوّلوه إلى ورقة للمتاجرة ووضعوه أمام مصير مجهول. أما حديثهم عن الاستبداد فهو حديث هواة في الفكر السياسي، والواقع نفسه يتساءل إزاء واقع الحريات في بلدان خصوم سورية: كم من ماغوط اتسعت له تلك البلدان، وكم من دريد لحام تعرف تلك الدّيار، أم هي قبائل الصّمت والقهر التي جعلت الميثاق العربي كما يقول مظفّر: «وغداً الميثاق العربي بدون شوارب».
سيكون من قبيل التكرار الجواب عن أي آفاق جديدة ستأتي بها قمّة أدمنت التآمر وتحوّلت إلى فرع لمجلس التعاون الخليجي، لكن يبقى الشيء الجوهري في هذه القمّة هو غياب سورية التي تحوّلت إلى لعنة دائمة داخل جامعة الدول العربية، غيابها الذي يجعلها أبعد من أن تكون شاهد زور على الانحدار. وبالتأكيد، فإنّ سورية رغم كل مواجعها تبدو في الموقف المريح بينما أقطاب الانحدار العربي يشعرون بثقل وخطورة الموقف، لكنهم لم يعودوا يملكون خيار الموقف الصحيح. لم يعد هناك أي مضمون لقمم عربية جدير بأن يقرأ خارج رائعة مظفر النواب «قمم»: «كامب على كامب.. أبا كمباتكم على أبيكم جائفين تُغلق الأنوف منكم الرِّمم».