علي الرّاعي
«كاسرُ قَماقِم الفراهيدي، ومُستبدل الأعمدة بأنفاس العطور والفساتين واستغاثات النهود، ومحوّل البيت الشعري إلى نوفوتيه للبهجة وللجماليات». ويُضيف الشاعر والناقد العراقي أسعد الجبوري في توصيفه للشاعر نزار قباني إنه: المستعيد روح الكلاسيكيات إلى الغرام الملتهب بنشوة الطيور الضَّوَارِي وبالنيران الخارجة من اِحتكاكَ كلمات العاشقين ببعضها لإحياء تظاهرات الشغف فيما تبقى من الأفئدة, من جهتي لا أرى صاحب (بريد السماء الافتراضي) مُتطرفاً أو مُبالغاً في توصيفه لمن أربك المشهد الشعري العربي بقصيدة تجلس مع قارئها على مائدة الطعام.. فعلى مدى أكثر من نصف قرن من الزمن لا أعتقد أن شاعراً «شغل الناس وملأ الدنيا» أكثر من ثلاثة شعراء سوريين، وهم نزار قباني كصاحب لغة جديدة، ولغة «مخدع» مختلفة، وغير ذلك، لغة استطاعت أن تدخل مطبخ ربة المنزل، كما استطاعت تحريك إحساس مراهقة، وكذلك محمد الماغوط بتراكيبه المدهشة، ونزقه الذي «فشّ خلق» الكثيرين من المأزومين، وحده أدونيس الذي شغل العالم وملأ الدنيا ليس منذ نصف قرن وحسب، بل ربما يكون توءم المتنبي إن لم يتفوّق عليه، والذي كان مثار جدل وإشكال لم يتوقف يوماً، أدونيس الذي شغل الناس بفكره وفلسفته وجرأته التي تخطت كل التابوهات، هؤلاء الثلاثة السوريون حتى العظم هم كانوا ولا يزالون يشكّلون أقطاباً للقصيدة العربية المعاصرة ليس في سورية وحسب، بل وفي العالم العربي كله.
صحيح إنه كان ثمة «قطبية» ناشئة للكثيرين من شعراء برزوا ذات حين خلال المئة سنة الماضية، غير أنه كانت ثمة حوائل، حالت دون اكتمال التجربة، أو توقفها عند حدود معينة لتشكّل قطباً قي القصيدة المعاصرة، وإن كانت علاماتها الفارقة ظاهرة منذ تكونها، لتكون ذلك القطب الذي يشكّل مدرسة في قول الشعر، وهنا – ربما- تبدو تجربة الشاعر الراحل رياض صالح الحسين مثالاً رائعاً في هذا المجال، حيث الموت أوقف التجربة الحارة والمتدفقة بعمرٍ مبكر..!
ومع ذلك ليس حديثي في هذا المقال عن أقطاب القصيدة في سورية، وإنما ما أريد لفت الانتباه إليه تلك الحالة التي شكلتها قصائد نزار قباني كرافد للأغنية العربية، حتى شكلت اتجاهاً في نهر هذه الأغنية، تماماً كالقدود أو العتابا، أو غير ذلك، أغنية يمكن تسميتها بكل أريحية التسميات«الأغنية النزارية».. بدأ ذلك سنة1960، عندما لفت الشاعر المصري كامل الشناوي انتباه الملحنين والمطربين إلى قصائد القباني التي تبدو ملحنة وجاهزة للغناء، وهذا ما اعترف به محمد عبد الوهاب الذي قال له: ” أنت شاعر مريح جداً، لأنك تعطيني قصائدك ملحنة، فكيف ألحّن ما هو ملحن..؟!”.. لفت الشناوي الانتباه فلحن له محمد عبد الوهاب قصائد:«لا تكذبي، أيظنُّ، ماذا أقول» التي أدتّها بكامل دفء صوتها المطربة نجاة الصغيرة، و لحن لأم كلثوم: ” أصبح عندي الآن”.. ثم ليتوالى بعد ذلك تهافت الملحنين والمطربين على قصائد هذا الشاعر الاستثنائي لتقديمها أغاني لها دفؤها ولها اتجاهها الخاصان، ومن ثم ليكون أكثر الشعراء العرب، الذين يتم غناء قصائدهم، طبعاً باستثناء شعراء الأغاني المختصين بالأغنية، أو الذين يكتبون كلمات لتُغنى فقط.
وإذا كان كامل الشناوي أول من لفت انتباه الملحنين والمطربين لقصائد نزار قباني، غير أنه لم يكن الأول الذي لحن قصائد القباني، فقد لحّن السوري نجيب السراج، وغنى قصيدة “بيت الحبيبة” سنة 1959، و من ألحان الرحابنة غنت فيروز خلال سنة 1960 ثلاث أغانٍ هي: “وشاية، لا تسألوني، ولقد كتبنا”.. كما لحن محمد الموجي لعبد الحليم حافظ :” رسالة من تحت الماء، وقارئة الفنجان”، وحتى سنة2000 كان قد غنّى قصائده كلٌّ من نجيب السراج، نجاة، فيروز، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، نزيه المغربي، ربا الجمال، رزان، فايزة أحمد، ماجدة الرومي، خالد الشيخ، فاتن مصطفى، أصالة، ولطيفة، و.. بعد سنة 2000غنى له كاظم الساهر ولحن وحده ما يُقارب عشر أغانٍ، و.. بالطبع كان للقباني رأيه، بمن غنى قصائده، وهي جميعها إيجابية، ويبدو أنه كان مسروراً لغناء أشعاره، وهنا نذكّر أن أدونيس أيضاً كان مرتاحاً لكل التجارب التي استوحت من قصائده مسرحيات، أو لوحات تشكيلية، وحتى ما غنته له المطربة السورية بادية حسن..
يذكر الدكتور محمد رضوان الداية: شعر نزار قباني بعد عصر أحمد شوقي؛ هو الشعر الأكثر سيرورةً في البلاد العربية، والأكثر انتقاءً من المطربين والملحنين، والأكثر انتشاراً بين قُراء الشعر.. نزار قباني الذي كان يُردد دائماً: “القصيدة نوع من التأليف الموسيقي..”. إذاً ثمة نبعٌ عذب كتبه شعراء كبار؛ كان يُمكن لو استثمر كما يجب الإبداع؛ أن يُشكل نهرَ أغانٍ!!
لا تسألوني ما اسمُهُ حبيبي
أخشى عليكم ضَوْعَةَ الطُيُوبِ
والله لو بُحْتُ بأيِّ حرفٍ
تكدّسَ الليلَكُ في الدروبِ
تَرَوْنَهُ في ضحكةِ السَوَاقي
في رفّةِ الفراشةِ اللعوبِ
في البحر في تنفُّس المَرَاعي
وفي غناءِ كلّ عندليبِ في أدْمُعِ الشتاءِ حينَ يبْكي
وفي عطاءِ الديمةِ السَكُوبِ
محاسنٌ لا ضمّها كتابٌ
ولا ادَّعَتْها ريشةُ الأديبِ
لا تسألوني ما اسمه كَفَاكُمُ
فلن أبوحَ باسْمِهِ حبيبي