الدراما السورية تكسر حصارات السياسة

الدراما السورية تكسر حصارات السياسة

 

بديع منير صنيج

أثبتت الدراما السورية أنها قادرة على تجاوز كل المعوقات التي تواجهها، بما في ذلك التشتت الحاصل في كوادرها، وقلة ميزانيات الإنتاج، وضعف التسويق، وأن المطَّلع على خريطة توزيع المسلسلات السورية سيلحظ أن الدراما المشتركة وأعمال البيئة الشامية هي الوحيدة التي استطاعت تخطي عوائق المنع التي فرضتها القنوات الخليجية بتأثير سياسات بلادها، لكن ذاك التَّعنُّت فكَّكته أصالة الدراما السورية وحرفية العاملين فيها، اللتان شكلتا منذ زمن طويل أرضية قوية مبنية على محبة الجمهور العربي لتلك الدراما، وهو ما يعد فيصلاً في نجاح أي مسلسل.
ولعل آخر جدار منعٍ تحطَّم على قناة «إم بي سي» السعودية، فمنذ شهرين فوجئنا بعرض مسلسل “على صفيح ساخن” تأليف مشترك لـ”علي وجيه” و”يامن الحجلي” وإخراج “سيف الدين سبيعي” بعد اثني عشر عاماً من بث مسلسل “بنات العيلة” تأليف “رانيا البيطار” وإخراج “رشا شربتجي”، والمفاجأة تأتي من كون هذا العمل سورياً بكامل تفاصيله، وقصته تدور حول “دراما نبَّاشي القمامة” إلى جانب محاور لها علاقة بتجارة المخدرات والتفسُّخ الأسري وغيرها من الخطوط الدرامية التي تدور بالفلك السوري البحت، وكأن القنوات السعودية قد مهَّدَت عبر هذا المسلسل لإنهاء القطيعة التي دامت أكثر من عقد منذ “بنات العيلة” الذي كان أيضاً سورياً مئة بالمئة ويتناول قضايا النساء السوريات ومشكلاتهن ونظرة الناس إلى المطلقات على اختلاف مستوياتهن المادية، وما إلى هنالك.
هذا التمهيد تبعه في هذا الموسم الرمضاني إدراج مسلسل “مع قيد التنفيذ” وهو بتوقيع وجيه والحجلي تأليفاً وسبيعي إخراجاً على جدول عروض «إم بي سي»، وهو ما يمكن اعتباره تأكيداً على أهمية حضور الدراما الاجتماعية السورية على تلك القناة، وعودة حميدة لأواصر العلاقة السورية-السعودية درامياً، وحلحلة ما فرضته السياسة من قيود على الفن، وهو ما سينعكس بكل تأكيد على حركة الإنتاج الدرامي السوري، بعدما استعاد جزءاً مهماً من السوق التي كان يفتقدها في سنوات الحرب، وسيصب ذلك أيضاً في مصلحة جميع العاملين في الحقل الدرامي، على الصعيد المادي، وعلى صعيد الحضور العربي.
ومن المهم هنا التنويه بأن الأعمال الاجتماعية السورية لطالما كانت عنصراً جاذباً للجمهور العربي، لما تملكه من مصداقية وملامسة حقيقية لهموم المجتمع ومشكلاته، فضلاً عن حيويتها ومفرداتها التشويقية، والحرفية العالية للعاملين فيها، ابتداءً من الكتاب مروراً بالممثلين وكل المهن الدرامية من إضاءة وديكور وصوت… وانتهاءً بالمخرج، والأهم قدرتها على أن تكون مرآة صافية لقضايا تمس الإنسان أينما وجد، بمعنى؛ إمكانية إسقاطها على مجتمعات عربية أخرى، ما يجعلها مطلوبة عربياً من المتابعين، وقادرة على تحريك وجدانهم ومقاربة هواجسهم والتحدث بلسانهم، ونتيجة تلك العلاقة الوطيدة مع الجمهور العربي، فإنها تشكل مغناطيساً للإعلانات ووكالاتها، وهو ما يعود بالفائدة أيضاً على القنوات العارضة، سواء «إم بي سي» أو غيرها، أي إن إعادة مد الجسور بين الدراما السورية والقنوات يكفل فائدة مشتركة للطرفين، وتعزيز الوصال بينهما يُفصِح عن مزيد من الخير سيطول كل عناصر “الدارة الدرامية”، إن صح التعبير، ولاسيما إن أثبت المسلسل المعروض أنه من طينة الأعمال السورية القادرة على إثارة اهتمام الجمهور العربي أينما كان، وهو ما سيؤدي مستقبلاً إلى إلغاء ما كانت عليه القنوات السعودية من تعنُّت ذي أسباب سياسية تجاه مسألة عرض المسلسل الاجتماعي السوري، بحيث لا تكتفي فقط بعرض مسلسلات البيئة الشامية التي تُصاغ أساساً بفنتازية لا تُقارب هموماً واقعية، وتتقصد الابتعاد عن الجدية في الطرح، وإنما تصبح الدراما الاجتماعية السورية وجبة دسمة في موضوعاتها وعمق مضامينها مع الحفاظ على أعلى درجة من التشويق.
بمعنى؛ إن الدراما سبقت السياسة في فتح صفحة جديدة من العلاقات، والدليل على ذلك أن القنوات الإماراتية عرضت العديد من تلك المسلسلات قبل الإعلان عن إعادة فتح القنوات السياسية، والكويت أيضاً، والطموح كبير بأن يكون مسلسل “مع قيد التنفيذ” هو فاتحة لعرض المزيد من الأعمال الاجتماعية السورية على القنوات السعودية، وخاصةً بعد النجاح الذي حققه صُنَّاعه في مسلسل “على صفيح ساخن” والجماهيرية العربية التي زادت بعد عرضه على «إم بي سي»، وأتوقع أن ذلك سيزيح الأعمال الدرامية المشتركة، الأسهل ترويجاً وتسويقاً، ويجعل التركيز منصبّاً أكثر على الأعمال السورية الصافية، ولاسيما أن تلك الشراكات الدرامية كان مفتعلة في قسم كبير منها، والسبب وراء اللجوء إليها تسويقي بحت، وأشبه بالضحك على اللحى، ومع إعادة صفو العلاقات لن يعود لها مبرر وجودي، وستميل الكفة لمصلحة الأعمال الأصدق والأكثر ملامسة للواقع، والأبعد عن الابتذال والافتعال والفنتازيا.

وأعتقد أن قوة الدراما الاجتماعية السورية هي في كونها محببة للجمهور العربي، وقريبة مما يرجوه درامياً، وتلامس وجدانه على صعيد اللهجة ومقولة العمل وجمال الممثلين وحرفيتهم وجماليات الصورة.. تلك القوة فرضت عودة تلك الدراما إلى القنوات السعودية والعربية عموماً، ففي النهاية لا يصح إلى الصحيح، ورغم التشتت الدرامي السوري الذي حصل بفعل الحرب، إلا أن الدراما السورية أثبتت أنها ما زالت تمتلك كل مقومات نجاحها، وأنها قادرة شيئاً فشيئاً على استعادة مكانتها التسويقية السابقة عن طريق كسر حصارات السياسة لها، وفرض شروطها الجمالية والإنسانية لكونها فناً يُقدِّر قيمة الوعي ومن واجبه أن يجمع الكل على منطق المحبة بعيداً عن تحزُّبات السياسة التي تُفرِّق وتُسيء.

اخبار الاتحاد